بدأت هذه السلسلة من المقالات عندما أصدر المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية مذكرته بتوقيف الرئيس السوداني عمر البشير لاتهامه بجرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية في دارفور، وكان هدفها التعرف على هذه المحكمة، وهو ما طالبني به بعض القراء، وتناولت فيما تناولته في هذه المقالات كيف نشأت فكرة المحكمة، وأن من أسباب نشأتها النقد الذي وجهه المجتمع الدولي لمحاكمات نورمبرج، مما دعا إلى ضرورة تقييم هذه المحاكمات، حيث تناولت في المقال السابق أن تقديس الفرد وتعظيمه كان المتهم الأول، الغائب الحاضر في هذه المحاكمة، وأن الحكم الفردي المطلق كان وراء ابتلاء العالم بحربين عالميتين، راح ضحيتهما عشرات الملايين من البشر، فضلاً عن الدمار الذي خلفتاه في الدول التي خاضت أو وقعت ضحية هذه الحرب.

Ad

وكان المتهمون، وخصوصا العسكريين منهم، يدفعون مسؤوليتهم عن هذه الجرائم، بأنهم كانوا ينفذون الأوامر التي تصدر إليهم، وتمسك بهذا الدفاع الفيلد مارشال كايتل رئيس أركان حرب القوات المسلحة الألمانية عندما قال: «بالنسبة إلى الجندي الأوامر هي الأوامر»، أما رئيس جهاز الأمن الخاص بهتلر بما فيه الجستابو والشرطة السرية أرنست كالتنبروتر فقد قال: «أنا أشعر بالذنب حيال جرائم الحرب وقد أديت واجبي كمسؤول عن الأمن» ثم استطرد ليقول: «واعترض أن أحاكم كبديل لهتلر».

ولهذا حرص نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، على أن يواجه هذا الأمر فنص على أن الأوامر الصادرة من الرؤساء لا تعفي من ارتكب جريمة من جرائم التي تختص بها المحكمة- اعتماداً على هذه الأوامر- من العقاب.

وهو حكم يتفق مع بشاعة الجرائم التي تختص المحكمة الجنائية الدولية بالعقاب عليها، وهي جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وفقاً للتعريف الذي عرف به النظام الأساسي للمحكمة هذه الجرائم.

وحيث تعني جرائم الإبادة الجماعية- وفقاً لأحكام نظام روما- بوجه عام الأفعال التي تُرتكب بقصد إهلاك جماعة قومية أو إثنية أو مذهبية أو دينية بصفتها هذه، إهلاكاً كلياً أو جزئياً.

وحيث تعتبر جرائم ضد الإنسانية ما يرتكب ضد المدنيين من جرائم القتل، والاسترقاق، والنقل القسري للسكان، والتعذيب، وأشكال العنف الجنسي، وجرائم الفصل العنصري، والاختفاء القسري للأشخاص.

كما اعتبر النظام الأساسي للمحكمة من جرائم الحرب ما يرتكب في إطار خطة أو سياسة عامة في إطار ارتكاب واسع النطاق لهذه الجرائم، بحيث تشمل الانتهاكات الجسيمة لاتفاقية جنيف المؤرخة 12/8/1949، من عمليات قتل أو تعذيب أو معاملة لا إنسانية، إلخ الجرائم ضد الإنسانية التي نص عليها النظام الأساسي.

إلا أنه من غير المفهوم، ما نص عليه النظام الأساسي للمحكمة من إعفاء المتهم من العقاب، إذا كان عليه التزام قانوني بإطاعة أوامر الحكومة أو الرئيس المعني، لأن هذا الاستثناء يمكن أن يسري على العسكريين جميعهم الذين يرتكبون هذه الجرائم، لأن عليهم التزام قانوني بالطاعة.

كما أنه من غير المفهوم كذلك أن يعفي من العقاب، متهم لم يكن يعلم بأن الأمر الصادر له غير مشروع، لأنه إذا جاز ذلك بالنسبة إلى أفعال تؤثمها القوانين الجزائية الوطنية، وبالنسبة إلى أفعال، قد تختلف التشريعات الوطنية في تأثيمها، فإن بشاعة جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، لا يمكن أن تسمح لمتهم في هذه الجرائم بالإدعاء بأنه لم يكن يعلم بعدم مشروعية الأمر الصادر له.

كما أن بشاعة هذه الجرائم تجعل عدم مشروعية الأوامر الصادرة من الرؤساء بارتكاب هذه الجرائم ظاهرة، بما لا يجوز معه ما قرره النظام الأساسي للمحكمة من إعفاء المتهم من العقاب إذا لم تكن عدم مشروعية الأمر ظاهرة.

وهي استثناءات تقوض من مبدأ العدالة الجنائية الدولية والمساواة، لأن من شأنها التمييز بين المتهمين، وهو تمييز قد يقوم على اعتبارات سياسية، حين تفتح هذه الاستثناءات الباب على مصراعيه، لاختلاف التفسير والتقدير، للالتزام القانوني بالطاعة في تشريعات الدول المختلفة، ولكون الأوامر الصادرة من الرؤساء، قد يختلف التقدير أو التفسير حول ما إذا كانت تبدو في الظاهر مشروعة أو غير مشروعة، وهو ما يخالف المبدأ الذي أرسته محاكمات نورمبرج التي تقرر فيها بأن على العقلية العسكرية أن تنفض من عقيدتها أنها لن تحاسب على ما ترتكبه من جرائم حرب، ولو تمت بأوامر عليا، تقضي النظم العسكرية في جيوش العالم كلها بعدم مناقشتها، وقد أصبح هذا المبدأ المهم في المسؤولية الجزائية جزءاً من الضمير الإنساني.

ولهذا لا أستبعد أن تكون هذه الاستثناءات قد أوردها فقهاء القانون الجنائي الدولي، في اللجنة التي أعدت وصاغت النظام الأساسي، كحل توفيقي بين دول تتمسك باختصاص قضائها الوطني، وحماية جنودها ورعاياها من القضاء الجنائي الدولي، وبين دول آمنت بالعدالة الجنائية الدولية وبالقضاء الجنائي الدولي ولا أستبعد أن تكون الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل جزءاً من هذه المعادلة الصعبة، خصوصا أنهما لم يشاركا في التصويت على إنشاء المحكمة، وأنهما سحبا توقيعهما على نص الاتفاقية الخاصة بإنشاء المحكمة الجنائية الدولية بعد توقيعهما عليها.