في مطلع عام 1992 والكويت مازالت تعمل حينئذ كخلية نحل في جهودها الحثيثة لإعادة دورة الحياة الطبيعية التي عطَّلها الغزو العراقي، شاركتُ مع مجموعة متميزة من المفكرين والاختصاصيين في عرض أوراق عمل في اجتماع مهم حضره مجموعة من الوزراء ووكلاء الوزارات وكبار المسؤولين في الدولة، عُقِد حينئذ في قاعة المرحوم أحمد الدعيج بمبنى وزارة التخطيط، وترأسه وكيل وزارة المالية آنذاك عبدالمحسن الحنيف. في ورقة العمل التي عرضتُها أكدت ثلاثة مرتكزات، قلت إنها الأكثر أهمية، ونحن ننظر الى اعادة بناء مؤسسات الدولة. هذه المرتكزات الثلاثة هي: الأمن والتعليم والرعاية الصحية، وان تعزيز كفاءة وقدرة الكويت في هذه المجالات يمثل السبيل الأمثل لمعالجة الآثار السلبية التي ترتبت على كارثة الغزو، وقاعدة الانطلاق الأقوى نحو مستقبل أفضل وأرقى.

Ad

وأفردتُ في تلك الورقة محوراً أساسياً أكدت فيه أن الزيادة في مخصصات الإنفاق العام على هذه الخدمات الثلاث قد تحقق تحسنا ملموسا في المؤشرات الكمية لمفرداتها، مثل زيادة عدد المخافر وأفراد الشرطة، أو عدد المدارس والمعلمين والخريجين، أو عدد مراكز الرعاية الصحية والأطباء والممرضين، ولكنها لن تضمن تحقيق تحسُّن في النوعية، أي زيادة شعور الأفراد بالأمن والاستقرار، أو تحسُّن نوعية مخرجات التعليم، أوتحسُّن مستوى الرعاية الصحية.

تكاليف عالية جداً

إن تكلفة خدمات الأمن والتعليم والصحة التي يتحملها الإنفاق الحكومي في دولة الكويت كانت ومازالت مرتفعة جداً بالنسبة الى الإنفاق المقابل لها في بلدان مجاورة وأخرى بعيدة، كما أن متوسط هذه التكلفة أعلى عند مقارنته بمتوسط تكلفة الخدمات المناظرة لها في القطاع الخاص في الحالات التي يوفر فيها هذا القطاع مثل هذه الخدمات. ولكن أداء وفاعلية وإنتاجية هذه الخدمات الثلاث العامة مجتمعة أو أداء كل منها على حدة يؤكد ان التحسُّن الذي تشهده مقتصر على المستوى الكمي فحسب، إذ يشهد مستواها النوعي تدهوراً ملموساً ومتواصلاً، سواء من حيث المقارنة بين مستواها عبر الزمن، أو بقياس الفروقات الحاضرة، بين مستوى التعليم الحكومي والتعليم الخاص مثلا، أو بقياس جودة خدمات الرعاية الصحية في المراكز الحكومية، وتلك التي يديرها القطاع الخاص. وتكمن مشكلة ضعف فاعلية مخصصات الانفاق العام في هذه المجالات في انعدام كفاءة توزيع واستخدام هذه المخصصات، وغياب الرقابة على قنواتها ومساراتها، وعدم تفعيل مبدأ الثواب والعقاب. وقد ركّزتُ في النتائج التي عرضتها في الاجتماع المشار اليه أعلاه على أهمية اعادة هيكلة الانفاق على الخدمات الاجتماعية الثلاث المذكورة، وإحكام السيطرة على مسارات هذا الانفاق، لأن من شأن ذلك أن يزيد من فعاليته، كما أن من شأنه أن يحقق للميزانية العامة موارد مالية فائضة. ولا أعتقد أن هناك أحدا منا يشك في عدم كفاءة الانفاق العام على الخدمات الاجتماعية في دولة الكويت أو يجادل في مسألة وجود هدر قياسي في هذا الانفاق أو في ضعف، إن لم نقل غياب، الرقابة على قنواته ومساراته.

إعادة هيكلة الميزانية

وإذا كان هناك ما يبرر في سنوات الرخاء التغاضي عن الهدر والاسراف وعدم الكفاءة، فإننا أحوج ما نكون اليوم إلى اعادة هيكلة الانفاق على هذه الخدمات وإحكام الرقابة على آلياته وقنواته.

ان التوجه الى خفض الانفاق العام في ميزانية عام 2010/2009، الذي حتمته ظروف الأزمة المالية الراهنة، لا ينبغي أن يكون خفضا عشوائيا. لقد وجهّت وزارة المالية، وهي بصدد تخفيض مخصصات الانفاق العام في الميزانية العامة الجديدة من نحو 19 مليار دينار كويتي إلى نحو 12.5 مليار دينار كويتي، إلى الوزارات والإدارات الحكومية مطالبات رسمية بخفض موازناتها بنسب وصلت، في بعض الحالات، الى نحو 40 في المئة. وتفيد المعلومات الأولية بأن قطاعات الأمن والتعليم والصحة على وجه الخصوص مرشحة لأن يصيبها العبء الأكبر من هذا التخفيض في المخصصات.

واليوم، والكويت في مواجهة هذه الأزمة، مازلتُ أرى، كما رأيتُ في عام 1992 أننا بحاجة الى اعادة هيكلة موازنات الجهات العاملة في هذه القطاعات وإحكام الرقابة على قنوات صرفها وتفعيل مبدأ الثواب والعقاب بها، وليس الى خفض عشوائي في مخصصاتها. إن الحاجة الى التخلص من الهدر القياسي في عملية انفاق هذه المخصصات واعادة توجيهها الى المحاور الاكثر فاعلية هو المطلوب. وفي مثل هذه الحالة فإن الخفض سيأتي كمحصلة طبيعية لكفاءة توزيع الموارد والرقابة على أوجه الصرف، أما المطالبة العشوائية للجهات الحكومية بخفض موازناتها فأخشى أن يتحقق على حساب بنود الانفاق الأشد أهمية، بينما يبقى الهدر وخطأ التقدير والتوجيه وضعف الرقابة المتفشي هو سيد الموقف.

ديوان المحاسبة

إن على وزارة المالية ولجنة الميزانية وكذلك لجنة الشؤون المالية والاقتصادية بمجلس الأمة مسؤولية تاريخية، اذ يتعين عليها جميعا القيام بخطوات موضوعية مدروسة جادة وعاجلة من أجل تحديد مواطن الخلل في مصروفات الإدارات الحكومية المختلفة، سعيا الى تحقيق درجة أعلى من الكفاءة في توزيع الميزانيات وإحكام الرقابة على قنوات الصرف، ولا أعتقد أن الأمر يتطلب الكثير من الاجتهاد، فتقارير ديوان المحاسبة مثقلة بالاشارات، إما بالتصريح او بالتلميح، الى المخالفات في مسارات الانفاق العام وإلى مواطن الهدر والاسراف في استخدام الأموال العامة. اللهم هل بلغت.