صدر عن «منشورات الاختلاف» و{دار كلمة» كتاب «ماكس فيبر ومفارقات العقل الحديث» للكاتب والفيلسوف الفرنسي فيليب راينو (ترجمة محمد جديدي وتقديمه). والكتاب تشريح وافٍ لسوسيولوجيا ماكس فيبر، إذ يتناول فيه الكاتب الفكر الفيبيري بالتحليل والنقد. التراث الألماني زاخر بأفكار ومفاهيم واستدلالات دفعت بالألمان إلى مصاف الأمم المتطورة، بفضل فلاسفة من طراز هيغل وهابرماس، الذين صاغوا فلسفتهم الخاصة، بل فلسفتهم الأصلية، حينما أدركوا طبيعة الفلسفة الإغريقية الأصلية وعمقها، لا لأجل فهمها فحسب، بل لاستلهام روح أصالة الفكر والمعرفة منها. وهكذا توالت المواقف الفلسفية الألمانية في البروز، من كانط إلى هيدغر مروراً بهيغل، هوركهايمر، وأدونور. ومن هذه الزاوية لا يعتبر ماكس فيبر مجرد مفكر ضمن قائمة طويلة، وإنما قيمة تُقاس مقارنة إلى أقرانه، ومن خلال تمكنه من وضع اسمه بين العمالقة. يقع فكر فيبر في بوتقة تجتمع فيها السوسيولوجيا بفلسفة التاريخ، والنظرية النقدية بالاقتصاد السياسي، ويتقاطع فيها المجتمع والأخلاق، وتتشابك عندها البروتستانتية بالرأسمالية. وتجعل التقاطعات والاهتمامات من فيبر شخصية متميزة تتعدى ملامحها أعماله التي تدفعنا إلى اعتباره عالم اجتماع من طراز عريق، وإلى النظر إليه كفيلسوف متفرّد في أفكاره، وكمحلل لوضع إنساني معقد. الثقافة الساميةانتقلت أوروبا من مرحلة أفرزت طروحات التقدم وأفكار القرن التاسع عشر ونظرياته العلميّة، إلى مرحلة بدأت تعرف في بداية القرن العشرين بعض الأمور الإيجابية، وهي مرحلة حاسمة بين نهاية القرن التاسع عشر بمخاوفه ومخلفاته وبداية القرن العشرين بطموحاته وآفاقه. ما أوجب على المفكرين النظر بعمق إلى مصير الإنسان الأوروبي في اتصاله بعالمه وعالم الآخرين الذين غزاهم فكرياً وعسكرياً وتقنياً، في عالم واحد لم تقدّم فيه إلى الآخر الأفكار والثقافة السامية، وإنما سفن الحرب والاستعمار والعبودية والاستشراق. يقسم المؤلف كتابه إلى ثلاثة أقسام، وينهيه بخاتمة عنونها «العقلانية النقدية، النزعة المنظورية والفكر الجدلي». كذلك وضع مقدمة تحدث فيها عن أهمية العمل الذي قام به فيبر، وعن الدور البارز الذي حظي به والنظريات الأخرى في القرن التاسع عشر في تحليل الظواهر الاجتماعية، شارحاً ما قدمه فيبر من خلال حديثه عن التاريخ الكوني وعن مصير الغرب.تناقض العقل التاريخيفي القسم الأول بعنوان {ايستيمولوجيا نقدية»، يتناول الكاتب فكر هيغل حول العلوم الاجتماعية، معرجاً على تناقض العقل التاريخي، والوهم التأملي. كذلك يشرح نظريات فيبر وماركس في حدود النزعة المنظورية. ويذكر الكاتب دلالة السببيّة المنهجية: معنى السببية التاريخية، الحرية الإنسانية، العقل التاريخي، والأنماط المثالية: منهجية غير ديالكيتية، الاستعمال الجيد للنظريات الدوغماطيقية، السوسيولوجيا والتاريخ. ويعرّج في هذا الفصل أيضاً على وحدة المنهجية الفيبيرية وفيها: الوعي التاريخي وزمان الفعل: تحولات النزعة النقدية.أما القسم الثاني بعنوان «سوسيولوجيا الفهم» فتحدث الكاتب في فصله الأول عن فكرة علم الذهن، متطرّقاً فيها إلى أصول سوسيولوجيا الفهم، ومعالجاً ثلاث أفكار لدى دلتاي وهي: الطبيعة، الذهن، والحرية. ويناقش في الفصل الثاني مهام سوسيولوجيا الفهم بحسب فيبر، متناولاً النزعة الفردية المنهجية، ثم حدود الفهم، وأخيراً فيبر وأثر علوم الذهن. وفيما يتصل بالقسم الثالث بعنوان «العقل والعقلانية في السوسيولوجيا الفيبيرية»، فقد رتبه الكاتب في فصلين، الأول بعنوان «حدود العقلنة»، ذكر فيه أشكال النشاط الاجتماعي، أنماط النشاط والعلاقات الاجتماعية، الجماعة والمجتمع من تونيز إلى فيبر، عقلنة النشاط ومشكلة الاستقلالية، منطق وديناميكية العقلنة، وحدود العقلانية السوسيولوجية. أما الفصل الثاني الذي ورد في صيغة تساؤلية حول كيفية عقلنة الهيمنة، فتطرق الكاتب في البداية إلى سوسيولوجيا الهيمنة: ماكس فيبر والسياسة، السوسيولوجيا السياسية وأشكال الهيمنة، سوسيولوجيا الحق ثم العقلانية والديمقراطية أخيراً، محللاً بذلك حدود التحليل الفيبيري ومتحدثاً عن حرب الآلهة: العقلانية الآداتية أو الانعتاق والنظام البيروقراطي. ويعتبر راينو أنه ومن بين كبار السوسيولوجيين في بداية القرن، يبقى فيبر صاحب الأثر الأكبر حيوية إلى اليوم. فمن خلال سعة طموحاته (التفكير في تاريخ كوني، تصميم أصالة مصير الغرب)، عبر المواضيع التي حبذها (تعارض التقليد مع الحداثة، معقولية التاريخ حتى في مظاهره اللاعقلانية)، يمكن للسوسيولوجيا الفيبيرية أن تبدو كأنها وريثة فلسفات التاريخ الكبرى في القرن التاسع عشر. وعلى العكس فإن رفضه لاختزال التاريخ الحقيقي في اكتمال مصير محدد سلفاً، قد جعل منه أكبر نقاد «التاريخانية» المصاحبة لأكبر أنساق القرن الماضي. بيد أن التوفيق، لدى فيبر، بين سوسيولوجيا جلية في طموحاتها وإبستيمولوجيا مركزة على تعيين حدود العلوم الاجتماعية، هو ما يؤدي إلى الاهتمام بالمؤسسة الفيبيرية: نقد الدوغماطيقية الذي سيطر إلى عهد قريب لم ينه الاهتمام بأبحاث تتجاوز كثيراً السوسيولوجيا الإمبريقية.ويؤكد راينو أن ما أعطى قيمة لعمل ماكس فيبر، رفضه المسبق تطور العلوم الاجتماعية المعاصرة المزدوج. فقد بحث عن تبيان صلاحية التفسير السببي في العلوم الإنسانية. كذلك تساءل عن الشروط التي تجعل من التأليف بين مختلف المحاولات المنظورية أمراً ممكناً، وتسمح أيضاً أن يكون الخطاب التاريخي كونياً صالحاً. كذلك أدخل فيبر في عمله توترات دلالية بين التوجيه العقلاني لنظرياته العلمية من جهة، ونزعته الشكيّة العميقة حول قدرة العقل في الإجابة عن المفارقات الأساسية للفعل البشري من جهة أخرى.جدالات معاصرةيلفت المؤلف إلى أن أهمية السوسيولوجية الفيبرية في الجدالات المعاصرة تتوضح من خلال ثراء مواضيعها وتنوعها، لا سيما من خلال الكيفية التي يضع بها فيبر معرفة هائلة وميتودولوجيا صارمة في خدمة إرشاد مأساوي تماماً. وبهذا المعنى ينتمي هذا الفيلسوف إلى ما بعد نيتشه. ويقول الكاتب في هذا المجال: «هدف التاريخ يبدو أقل من كونه تحرير الإنسانية من التقليد، أو استرداد العقل لأعمال الثقافة».ويضيف راينو بأنه ومن هذا الأثر تأتي مواضيع كبرى عدّة لتفكير فيبر: استحالة تجاوز «النزعة المنظورية» الملازمة للوعي التاريخي، تفكيك الاستقلالية والمرجعية إلى العقل، تعارض منطق التاريخ المجهول وعمل الأفراد العظام التاريخي. كذلك قد يقترب اتجاه فيبر السياسي في بعض النقاط من ذلك الذي يخص نيتشه: نقد المثل الإنسانية، فالفيلسوف مقتنع بضرورة سياسة القوة، ويريد الاحتفاظ بالمثل الأوروبية، ويرفض التداخل القومي بين القوة والثقافة في الوقت نفسه. البيروقراطية الإمبراطوريةيتوقف فيليب راينو عند السياسة لدى فيبر، معتبراً أن قيمة سوسيولوجيا الفيلسوف الكشفية ليست محل نقد واحتجاج، لكن الأمر ليس كذلك بالنسبة إلى فكره السياسي، الذي ما فتئ يثير خلافات كثيرة وقاسية، تبين مدى الانقسام الكبير بين ورثته. فلأنه اتخذ مواقف سياسية «متقدمة» (نقد البيروقراطية الإمبراطورية، اقتراح إصلاحات ديمقراطية، البحث عن اتفاق مع التيار الاجتماعي الديمقراطي)، بدا فيبر لفترة طويلة كمفكر ديمقراطي. ورغم ذلك لا يمكن تجاهل أن اتخاذ هذه المواقف ينخرط ضمن إشكاليات الدفاع عن «سياسة القوة»، نقد إيديولوجيا «حقوق الإنسان»، مدح كاريزما القادة السياسيين، ما يشكّل قطيعة مع التقليد الليبرالي والديمقراطي. وبحسب الكاتب فإن السياسة الفيبيرية ليست مجرد نسخة بديلة للنظريات غير الديمقراطية التي عرفتها السوسيولوجيا في بداية القرن. فبتحليل نزعات الأنظمة «الأوليغارشية» أو التنظيمات «الديمقراطية» تمتزج لدى فيبر التناقضات الداخلية بمبادئ المشروعية الحديثة، يوضح الكاتب في هذا السياق: «نقد فكره (فيبر) السياسي يتوجب عليه التمييز بين ما هو قائم على تحليل التصورات الحديثة وما يرتكز على إعادة تشكيل ديناميكية النزاعات الاجتماعية».
توابل - ثقافات
ماكس فيبر ومفارقات العقل الحديث لفيليب راينو... السوسيولوجيا على المشرحة
12-05-2009