بدأت هذه القصة العجيبة في مصر؛ في وقت سيدنا موسى عليه السلام ؛ لكننا لا نعرف بالضبط في أي وقت وقعت لسيدنا موسى، ومتى التقى موسى بالخضر؟ (عليهما السلام)؟

وهل يا تُرى قبل أن يكون نبياً وهو في بيت فرعون ، أم أثناء هروبه من مصر إلى مدين في السنوات العشر التي أمضاها في مدين؟ !!

Ad

أم أنها وقعت عندما رجع موسى من مدين إلى مصر ، وكلَّفه ربه بالرسالة ، وواجه فرعون ، وبقى في مصر حتى خرج هو وبنو إسرائيل من مصر، وغرق فرعون .

أم أنها وقعت بعد الخروج، أم في التيه في سيناء؟

لكن الغالب أنها وقعت قبل خروج موسى وبني إسرائيل من مصر وقبل غرق فرعون ... بمعنى أنها وقعت في أصعب وقت مرَّ على موسى وعلى قومه بني إسرائيل ..

لقد كان بنو إسرائيل في مصر مواطنين في درجة متدنية ... محرومين من المناصب، ومن الرزق الكريم، ومن التعليم طبعاً .. قال تعالى : { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ} (القصص : 4) ... وهم بنو إسرائيل ... هؤلاء الذين حرموا من كل شيء... لاسيما حق التعليم ، ولهذا كان بنو إسرائيل غير مهتمين بتعليم أولادهم؛ بل على العكس ازداد وضع قوم موسى تخلفاً، وتحقق مزيد من الانهيار والضياع؛ فلا غذاء للأبدان ولا للعقول ...

لقد كانت مصر في هذا الوقت متفوقة علمياً ، وصحيح أن فرعون وكهنته كانوا كافرين ... لكنهم مثل الوثنيين في الهند الآن على علم كبير ..

وفي المقابل ؛ كان بنو إسرائيل مؤمنين ؛ ولكن لا يمكن بالإيمان وحده أن ينتصروا ...

لابد للنهضة والتقدم من إيمان وتعليم وعمل معاً ... لذلك كله كان ضرورياً وقوع أزمة قوية تهز بني إسرائيل ...

إن العلم مهم وأساسي وهو خطوة البداية .. وإن حب العلم وعشقه ، وتقديسه ، والسعي إليه والتعب عليه ـ في إطار الإيمان ـ هو أول الحل ...

ومن هنا بدأ موسى يعلم قومه علوم الدين وعلوم الدنيا ... قال تعالى { وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} (يونس : 87).

لقد صارت البيوت هي مكان التعليم؛ مثل دار الأرقم التي كانت داراً للإيمان والتربية وللتدريب والتعليم .

وكان موسى ـ عليه السلام ـ يكلم بني إسرائيل عن قيمة العلم وثوابه عند الله ـ ولكنهم كانوا مشغولين بمشاكلهم اليومية ، وغير قادرين على إدراك أن الحل لعبورهم إلى العزة والرفعة ؛ من الواقع الذليل والمتخلف هو العلم ..

وكان بنو إسرائيل يفهمون ـ مثلنا في العصر الحديث ـ يفهمون العبادة على أنها صلاة وصوم فقط ... وتركوا كثيراً من الأعمال الأخرى؛ التي هي أيضاً عبادة ؛ بل هي قمة في العبادة؛ ألا وهي العبادة بالعلم لتحقيق التقدم ...

يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ «اختلف العلماء في مفهوم أفضل العبادة ...

وكان اختلاف العلماء في ذلك على أربعة أصناف :

الصنف الأول : وعندهم أن أنفع العبادات وأفضلها ؛ أشقها على النفوس وأصعبها.

قالوا : والأجر على قدر المشقة ...

والصنف الثاني ، قالوا : أفضل العبادة الزهد في الدنيا ... فرأوا الزهد في الدنيا غاية كل عبادة ورأسها .

والصنف الثالث : رأوا أن أنفع العبادة وأفضلها : ما كان فيه نفع متعدد، فرأوا خدمة الفقراء والاشتغال بمصالح الناس وقضاء حوائجهم ، هو العبادة المثلى .

والصنف الرابع قالوا: إن أفضل العبادة: العمل على مرضاة الله في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت .

فأفضل العبادات في وقت الجهاد : الجهاد ... وإن أدى ذلك إلى ترك الأوراد من صلاة الليل....

والأفضل في وقت حضور الضيف مثلاً : القيام بحقه ...

والأفضل في أوقات السحر: الاشتغال بالصلاة والقرآن.

والأفضل في أوقات الأذان ... الاشتغال بإجابة المؤذن.

والأفضل في أوقات وجود محتاج إلى المساعدة: المبادرة إلى مساعدته، وإغاثة لهفته وإيثار ذلك على أورادك وعبادتك.

والأفضل في وقت ضياع الأمة وانتشار الجهل؛ الإقبال على تعليم الناس.

وبإيجاز ـ كما نرى ـ فإن أفضل ـ بل وأحب العبادات إلى الله أن تعبده كل وقت وفق مقتضى هذا الوقت، وهذا وقت تحتاج فيه الأمة للعلم ، فالعلم هو أفضل العبادة بشرط أن يرتبط بمصلحة الأمة وشرع الله.

العلم الأعظم:

وقد ورد عن النبي ـ عليه السلام ـ أن موسى قام خطيباً في بني إسرائيل... فقام له رجل (متأثراً بكثرة كلام موسى عن العلم) يا نبي الله هل في الأرض من هو أعلم منك؟ فقال موسى : لا... فقال الرجل : فأنت أعلم أهل الأرض... فقال موسى: نعم.

وسأله واحد من بني إسرائيل وقال له : يا كليم الله هل على وجه الأرض اليوم من هو أعلم منك ؟ فنظر موسى (عليه السلام) إلى وجوه الرجال والنساء حوله من بني إسرائيل ... واستدار برأسه إلى الخلف البعيد ؛ حيث تبدو أسوار قصر فرعون ... وأجاب : لا ... ليس على الأرض اليوم من هو أعلم مني ...

فعتب الله على موسى أنه لم يرد العلم إليه... فلم يقل (الله أعلم) ... فلربما كان هناك من هو أعلم من موسى في الأرض...

وقد أراد الله سبحانه وتعالى أن يتعلم الناس أن إجابة موسى إجابة غير دقيقة.. فكان هذا اللقاء بين موسى والخضر عليهما السلام.

لقد جاء وحي من الله إلى موسى؛ يقول الله له فيه: «إنَّ لي عبداً بمجمع البحرين هو أعلم منك».

وكان هذا سبباً في حيرة موسى الذي يعيش في مصر في الجيزة... فأين مجمع البحرين.. هل هو التقاء بحرين بمعنى نهرين... النيل الأزرق مع النيل الأبيض في الجنوب في السودان.. أم هو التقاء القناطر الخيرية أم أنه رأس محمد في سيناء.

إن عدم التحديد طريقة ربانية لتوجيه شعب لأهمية العلم والتعليم ...

وتعليماً بقيمة العلم بطريقة عملية يعلن موسى لبني إسرائيل قائلاً: «أنا مسافر في طلب العلم»، ولن أسافر وحدي سآخذ معي شاباًً صغيراً واعداً يرافقني في الرحلة ... ولماذا فتى صغير؟ إنه إعداد علمي وعملي لجيل جديد يتعلم أثناء الرحلة من موسى، ويتعلم من هذا العبد (الخضر) معلم موسى لينقل التجربة... وليتم له التدريب العملي وتوريث الأجيال... إنه درس لنا... أن نبذل الكثير من أجل العلم، ولا نبخل عليه بمال أو وقت أو جهد.