تتفاوت حظوظ الأوتوقراطيات الحاكمة في الصين وروسيا الاتحادية وإيران ومصر والمغرب وفنزويلا من النمو الاقتصادي والتحديث المجتمعي كما تختلف أنماط إداراتها للحياة السياسية من احتكار صريح وقمع منهجي إلى اعتماد تعددية منقوصة ومشوهة تقف دون مستوى تداول السلطة ولا تخلو من قمع متواتر، إلا أنها تتلاقى على الجوهر الاستعلائي لتعريف علاقة الدولة ونخبتها بالمجتمع والمواطنين.

لنا، إذا نظرنا إلى مجمل المشهد السياسي العالمي، أن نتحدث عن لحظة أزمة حقيقية تعتري علاقة الدول بمجتمعاتها ومواطنيها، جوهرها إما اختلال متعدد الإرهاصات لعقد اجتماعي متوازن تبلوَر واستقر بمراحل سابقة، وإما استمرار لغيابه في ظل صراعات وتصدعات متواترة تعصف بأسس العيش المشترك.

Ad

ديمقراطيات أميركا الشمالية وأوروبا، وبعد حقبة طويلة استقر بها عقد دولة الرفاه الاجتماعي وجمعت بصياغات مختلفة بين مكونات ثلاثة هي: التزام اقتصاد السوق وضمان عدالة الحد الأدنى وممارسة الحريات المدنية والسياسية، تعاني اختلالات عميقة الأثر تعبر عنها اليوم الأزمة الاقتصادية العالمية وتمسُّ دور الدولة وحدود مسؤولياتها في إدارة اقتصاد السوق والخيط الناظم لعلاقتها بالمجتمع والمواطنين. فقد أخذت الهوة الفاصلة بين مداخيل الشريحة العليا من أغنياء الولايات المتحدة وبين حظوظ بقية السكان من الثروة في الاتساع منذ الثمانينيات مع تراجع دور الدولة الضامن للعدالة التوزيعية وتغيُّر النظم الضريبية لتصل اليوم إلى معدلات غير مسبوقة. وفقاً لإحصائيات عامي 2005 و2006، يستحوذ ما لا يزيد على 10 في المئة من الأميركيين على أكثر من 70 في المئة من ثروة المجتمع، تاركين ما يقل عن الثلث لأغلبية ساحقة (90 في المئة) من الفقراء ومحدودي ومتوسطي الدخل. هنا تكشف مقارنة سريعة مع معدلات السبعينيات، وخلالها لم يتجاوز نصيب الشريحة العليا من الثروة 30 في المئة، عن راديكالية التحولات المجتمعية التي تشهدها الولايات المتحدة في ظل تراجع دور الدولة وانحسار مسؤولياتها الاقتصادية والاجتماعية. وقناعتي أن القوة العظمى، وسياسات أوباما تذهب في هذا الاتجاه، لن تخرج من أزمتها الاقتصادية إلا بإعادة شيء من دور الدولة إلى السوق وشيء من العدالة التوزيعية بين الأغنياء والفقراء إلى المجتمع.

وإذا ما استثنينا جنة العدالة الاجتماعية في الدول الإسكندنافية، تكاد صيرورة التطور المعاصر لغرب أوروبا أن تتماهى مع الخبرة الأميركية وإن اختلفت النسب والمعدلات. فعمليات تفكيك دولة الرفاه الاجتماعي وكف يدها العادلة عن اقتصاد السوق، والتي دشنتها أوروبياً رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارغريت تاتشر (1979- 1990)، اتسع نطاقها تدريجياً ليشمل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا، وتعاقبت على تطبيقها حكومات يمين ويسار رفعت شعار المنافسة في زمن العولمة وزجت بمجتمعاتها إلى أتون تحولات اقتصادية واجتماعية أخلّت بتوازنها وحالت جزئياً بين الدول ونخبها وشرعية القبول الشعبي. خلال العقدين الماضيين، وكما أظهرت بيانات إحصائية ومسحية مختلفة، ارتفعت معدلات تركز الثروة بمعظم الحالات الأوروبية على نحو عمَّق من الفوارق الطبقية وقلَّص من المساحة التي تشغلها الشرائح المتوسطة الدخل بالخريطة المجتمعية، وجعل من الفقر ظاهرة متنامية. فعلى سبيل المثال تراجعت نسبة الطبقة الوسطى إلى إجمالي السكان في ألمانيا من 62 في المئة عام 2000 إلى 54 في المئة عام 2006، وتجاوزت نسبة المهددين بالفقر 12 في المئة، بل بلغت الأخيرة في بريطانيا 17 في المئة، وفي إيطاليا 18 في المئة. ومع أن نخب السياسة بأوروبا، وعلى نقيض الخبرة الأميركية، لم تتبع تفكيك دولة الرفاه بانتقاص جوهري في الحريات المدنية والسياسية، فإنها أضحت هي الأخرى تعاني أزمة شرعية يسهم في تكريسها إما فضائح فساد متتالية وإما تحالفات عضوية بين السياسة والمال وإما غياب شبه تام للاختلافات الفعلية (أي البرامجية) بين قوى اليمين واليسار يرتب عزوف المواطنين عن السياسة وفقدان ثقتهم بمن يمارسها. وما التنامي اللافت لظواهر مرضية كالعنصرية والشعبوية والعنف في التحليل الأخير سوى تعبير عن الاختلال المستمر في العقد الاجتماعي الناظم لعلاقة الدولة بالمجتمع والمواطنين وعجز الأوروبيين عن صياغة لحظة توازن جديدة وشرعنتها توافقياً.

إن كانت هذه هي وضعية الديمقراطيات الغنية في الغرب، وبها جميعاً استقر الفهم الحداثي للدولة وللمواطنة المدنية الجامعة المتجاوزة للولاءات الأولية (النوع واللون والعرق والدين) ولحدودها الفاصلة، فما بالنا بالحالات الأوتوقراطية التي ما لبثت بها ترابطات الدولة والمجتمع والمواطنين تدار على نحو سلطوي يجرد أي حديث عن عقد اجتماعي طوعي من المضمون والمصداقية، أو بتلك التي لم يتبلور بها بعدُ فهم حداثي للدولة يفصل بينها وبين فسيفساء الولاءات الأولية المكونة للمجتمع ويؤسس للتعاطي الحيادي معها؟ نعم تتفاوت حظوظ الأوتوقراطيات الحاكمة في الصين وروسيا الاتحادية وإيران ومصر والمغرب وفنزويلا من النمو الاقتصادي والتحديث المجتمعي، كما تختلف أنماط إداراتها للحياة السياسية من احتكار صريح وقمع منهجي إلى اعتماد تعددية منقوصة ومشوهة تقف دون مستوى تداول السلطة ولا تخلو من قمع متواتر، إلا أنها تتلاقى على الجوهر الاستعلائي لتعريف علاقة الدولة ونخبتها بالمجتمع والمواطنين وكذلك على النظر إلى قضايا الشرعية والقبول الشعبي باعتبارها بمنزلة حقوق عضوية للدولة لا تنزع عنها أو تحرم منها بغض النظر عن وجهة سياساتها وحصاد ممارساتها. وواقع الأمر أن تَواكُب هذين المكونين إنما يفسر بوضوح نزوع مثل هذه الأوتوقراطيات إلى التعامل بعنف بالغ وغير مرشد مع إرهاصات التململ أو الرفض الشعبي كما يشهد سحل عسكر الحزب الشيوعي الصيني لمتظاهري الديمقراطية بميدان «السلام السماوي» 1989، وتنكيل روسيا بوتين المستمر بالأصوات المشككة بالموقع الأبدي للرئيس السابق ورئيس الوزراء الحالي في أعلى نخبة الحكم، وقمع الأمن المصري لحركات احتجاجية عفوية لا مطالب لها سوى تأمين حد أدنى من العيش الكريم. هو إذن عقد قسري لا فكاك طوعياً منه ذلك الذي يربط بين الأوتوقراطيات ومجتمعاتها ومواطنيها، بيد أن أزماته وتوتراته لا نهاية لها.

أما الحالات التي لم تعتمد بعد فهماً حداثياً للدولة وللمواطنة الجامعة، وتحت هذه الفئة يندرج جُل المجتمعات العربية، فقد يربط حكامها بسكانها منطق ريعي خير يعتمد توزيع عوائد الثروة المجتمعية بصورة تلبي مطالب أغلبية واضحة، ومن ثم تضمن رضاها على ما كنا نراه في أغلب دول مجلس التعاون الخليجي قبل الأزمة الاقتصادية الراهنة، وقد تختزل العلاقة الرابطة إلى جوهر قمعي أحادي يروم سطوة المجموعة العرقية أو الطائفة المذهبية أو القبيلة في مواجهة الآخرين، وهو ما عبر عنه عراق صدام بقسوة بالغة. المعضلة هنا هي من جهة افتقاد الريع للثبات، ومن ثم حتمية التغيير الدوري لنمط توزيع العوائد بما يرتبه ذلك من توترات مجتمعية، ومن جهة أخرى استحالة استمرار قمع الطائفة الواحدة أو القبيلة الواحدة إلى ما لا نهاية ومأساوية لحظة البحث عن عقد اجتماعي بديل كما تدلل تراجيديا عراق ما بعد صدام.

* أكاديمي مصري