من أين خرج أوكامبو على السودان وقض مضجعه الدولي؟ ففي هذه الأيام صار الرئيس السوداني الصورة البارزة في الصحافة الغربية، وتحولت حكايته وحكاية الإبادة الجماعية في دارفور موضوعاً للساسة والمهتمين هناك. وفي موسم سياحي في الغرب لا تندهش إن صادفك أجنبي من القارة العجوز وسألك أسئلة ساذجة وغريبة، قد تعجبك وقد لا تعجبك، ولكن في النهاية، هو ذلك الإعلام الغربي القادر على التعاطي مع كل موضوع كما يهوى ويريد وحسب أهوائه، كما أن بمقدوره أن يجعل المنتديات والرأي العام والساحات العامة تهتم بشخصية الرئيس السوداني في هذه الأيام.

هناك رؤية للثقافة والرأي العام الغربيين تختلف عن رؤيتنا نحن العرب، فإن لدي الغرب نظرته وطريقته في الحوار والتساؤل. من هنا لا ينبغي علينا الانزعاج والارتباك من هذه الضجة، فلكل حالة وقضية خيوطها، أما عن خيوط الرئيس البشير وحالته في هذه الأيام وما يليها من أشهر، فقد باتت المحكمة الجنائية الدولية، ومسألة دارفور هي الحبل الناري المعلق في عنق الرئيس السوداني. وبات التشبيه بالرئيس اليوغسلافي سلوبودان ميلوسوفيتش والرئيس الليبيري تشارلز تايلور مثار النقاش في أعلى سلم الدوائر القانونية، حتى لدى الإنسان العادي الذي لا يتفهم القضية إلا عبر صورتين لا غير؛ إما أن الرئيس ضحية تآمر دولي يستهدفه هو ونظام حكمه، ومن ثم فإن السودان بوصفه مشروعاً للتقسيم في الحالة الإفريقية، وإما أنه بالفعل تورط من خلال زبانية في النظام في نوع من الإبادة الجماعية لقبائل في دارفور. هكذا ينظر الناس إلى المسألة إعلامياً، ويتجاذبون أحاديثهم وفق الخلفيات والرؤى التي اعتادوها في مجتمعات أكثر حرية من مجتمعاتنا المشوشة.

Ad

إذا ما حاولنا نقل تلك الحالة إلى الأنظمة العربية الرسمية، فسنرى أنها مجبرة، بسبب الارتباط الرسمي لأعضاء الجامعة العربية جميعهم، على أن تبادر بسرعة إلى الدفاع عن وضع رئيس عربي مطالب بالمثول أمام محاكمة دولية. بينما نجد القارة الإفريقية ومنظماتها تتجاذب مواقفها من دون تردد، مثلما فعلت مع قضايا سابقة كقضية الرئيس الليبيري «تشارلز تايلور»، حين تنصلت من الدفاع عنه، بعدما وجدت أن المجتمع الدولي والمنظمات الحقوقية الإفريقية والعالمية تطالب بمحاكمته، فصار الرئيس الليبيري مكشوف الظهر من جيرانه في القارة، بل ومن القوى الشعبية والسياسية في بلده، فتمت ملاحقته بكل يسر، حتى وجد نفسه في قفص «محكمة لاهاي» الشهيرة بمحاكمة رؤساء وشخصيات ارتكبت مذابح ومجازر حرب وإبادة.

وهنا يبرز تساؤل حيوي: هل الأوضاع الداخلية والعالمية ستتخلى عن الرئيس البشير أم ستقف معه وتعمل لمصلحته بقوة، مما يجعل تسليمه أمراً معقداً، حتى إن ادعت الجهات الرسمية أنها ليست معنية بمثل هذا القرار لكونها لم توقع أو لم تنضم إلى المحكمة الجنائية الدولية؟!

لسنا هنا بصدد مناقشة لماذا لم تختر الحكومة السودانية الانضمام إلى هذه المحكمة؟ ولكننا بصدد ترقب ما يمكن أن يفيد الرئيس السوداني من عدم انضمام بلاده، في حال تطبيق قرار ملاحقته والبحث عن آليات تنفيذ القرار على رئيس دولة ذات سيادة وعضو في الأمم المتحدة؟!

ربما لم يزل الموضوع في بداياته... كما أنه يحمل في طياته مساومات سياسية قد تستهدف دفع السودان، وحكومة البشير خصوصاً، إلى الدخول في اتفاقيات دولية معينة، ومنح القبائل والأعراق حقوقا دستورية، ومعالجة المسائل العرقية بمزيد من الجدية والتوافق داخل مجتمع يشهد تمزيقاً واقتتالاً عنيفين، ومن جانب آخر، فإن النظام ربما سيجد نفسه معرضاً لضغوط من دول صديقة وأعضاء في الجامعة العربية تطالب الرئيس السوداني بضرورة إعادة النظر في الأمور الداخلية دستورياً وسياسياً. وبالفعل، فإنه حسب تصريح المتحدث باسم الخارجية السودانية للصحافيين، فإن المرحلة المقبلة ستشهد معركة دبلوماسية، ميدانها مقر الأمم المتحدة، وهناك سيحاول الجميع انتزاع حقه المعلق في حبل رفيع داخل غرف مغلقة، يتوقع أن تدور بها لعبة الكواليس والصفقات وتفصيلاتها.

ما يأمله الساسة السودانيون وطاقم النظام السياسي للرئيس هو الاعتماد على «أصدقاء» السودان مثل الصين وروسيا وجنوب إفريقيا وإندونيسيا والتجمعات الإقليمية في الساحتين الإفريقية والعربية، في دعمهم للرئيس السوداني وحمايته من هجمة خفية برزت سيناريوهاتها بكل وضوح، وما عاد الآن لدى الرئيس قدرة على مواجهة الإعلام العالمي الذي حرك ماكينة الهجوم حاليا بإبراز تلك القضية العصية، إذ إن مجرد وضع رئيس دولة ما في قفص الاتهام في محكمة لاهاي، يُعد بحد ذاته عاصفة كبيرة لم يشهدها التاريخ السوداني، ولا حتى التاريخ الإفريقي، لولا حالة الرئيس الليبيري الذي نال شهادة السبق كأول رئيس إفريقي يقف بلا بطانة تحميه من الطوفان.

ليست التظاهرات وحدها مجدية، ولا الحشد الإعلامي مجدياً للدفاع عن الرئيس، فالقضية أكثر تعقيداً مما نتصور على الصعيد الدولي، ولاسيما في زمن العولمة، كما أن إغفال الحقائق والتطورات الداخلية وضع ملف الأزمة في دارفور وغيرها من المناطق على المحك واقعياً.

لكن يبقى التساؤل... هل بإمكان المجتمع الدولي معاقبة الرموز كلها المتهمة بجرائم الحرب والإبادة الجماعية وإخضاعهم لطائلة قانون مكافحة مرتكبي الجرائم، وتأكيد أنهم لن يفلتوا من العقاب؟! لاشك وقتها أن أروقة الأمم المتحدة ستصبح مجالاً خصباً لتبادل المعرفة والاستشهادات القانونية والسياسية، وسوف تضرب الأمثلة وتوجه التهم، وسيكون الرئيس بوش وإسرائيل أول النماذج الموضوعة في قائمة السلك الدبلوماسي السوداني في الأمم المتحدة!

* كاتب بحريني