لم يكن اغتيال جورج حاوي مصادفة، بل كان مخططاً يشكل حلقة من حلقات اغتيال الوطن.

فمن هو حاوي؟ وما أهميته للوطن؟

Ad

هو حامل لواء العلمانية والديمقراطية والحرية، عمل على نشر السلوك الحضاري الديمقراطي الذي يؤسس للبنان خالٍ من الطائفية والطائفيين، بشرط أن تبقى طوائفه لتشكل بتنوعها «موزاييك» فكرياً حضارياً بمنزلة المنارة لهذا الشرق.

في لحظة اقرار «الدوحة» كنت أستحضر جورج حاوي وأسأل نفسي: ترى ماذا يقول أبو أنيس، وهو يشهد من عليائه الوطن يُرسم على قياس الطوائف والملل، فيقر قانون الستين ليكون الوطن على مستوى قرية وقضاء، فيكون قضاء الله وقدره حرباً في ما بين الطوائف على مقاعد سيادية وغير سيادية، وتستعر الحرب داخل الطائفة الواحدة على مقاعد خدماتية وغير خدماتية، لا لتخدم مصالح المواطن، بل لتخدم استمرار الزعامة والتربع على الكرسي.

علة الأزمة السياسية اللبنانية الحالية هو الخلل في تركيبة السلطة وفق ما أفرزته نتائج الانتخابات التشريعية عام 2005، مما يتطلب إعادة إنتاجها بقانون عادل ونزيه للانتخابات يحقق صحة التمثيل وينصف فئات المجتمع جميعها.

المعركة الانتخابية المقبلة هي معركة حاسمة تحدد مصير لبنان وتنقله من مرحلة رمادية إلى أخرى مصيرية، خصوصا بعد دخول لبنان نفق التدويل منذ صدور القرار الدولي 1559 في سبتمبر 2004.

إن قانون الستين القائم على النظام الأكثري واعتماد القضاء دائرة انتخابية وتوزيع المقاعد طائفيا، والذي جرت على أساسه أربع دورات انتخابية لم يحقق صحة التمثيل وأدخلت نتائجه البلاد في حالة من «اللا استقرار» مهدت لاندلاع الحرب الأهلية عشية 13 أبريل 1975.

حاوي... الرجل المؤمن بالوطن، آمن بضرورة فتح صفحة جديدة في ما بين اللبنانيين، حيث كان أول من بادر إلى طي صفحة الماضي مع القوات اللبنانية فاجتمع مع قائدها عام 1991، ودعا إلى مؤتمر للحوار الوطني فجعله «السوري» يدفع ثمن ذلك اللقاء بمنعه من الدخول إلى الندوة النيابية.

نادى طوال سنواته الأخيرة بالمصالحة الشاملة الحقيقية واعتبرها المدخل إلى الخروج من القبضة السورية، حيث لم يكن موافقاً على النهج السوري في إدارة الأمور، وكان مديناً للأجهزة الأمنية وغطائها السوري.

آمن بالحوار... فكان مهندس الحوارات الصعبة متخصصاً في تدوير الزوايا يؤمن بالحلول المرحلية عندما تكون المسألة بين أبناء الوطن، فكان يتبناها ويبني عليها ويطورها، اقنع كمال جنبلاط عام 1976 بقبول الوثيقة الدستورية والبناء عليها، ولكن «السوري» كان بالمرصاد، اغتال حلم الوطن الجامع باغتيال مهندس المشروع وقائد الحركة حتى لا تنتقل عدوى الديمقراطية والتغيير من لبنان إلى محيطه. أما عندما كان الأمر مع الخارج فكان حاوي حاسماً غير متردد. ففي عام 1976 أعطى الأمر للتصدي للقوات السورية الغازية للبنان عسكرياً، فكان سباقا بالتصدي للمخطط السوري المرسوم للبنان منذ عام 1976.

في عام 1982 عندما انهار الجميع أطلق مع رفيق الفكر محسن ابراهيم «جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية» لتشكل رداً وطنياً شاملاً على مستوى الوطن، فشكل حالة استنهاض شعبي تعانَق فيها الصليب والهلال على مذبح الحرية والاستقلال ليندحر الاحتلال ويبقى الوطن، ما هي إلا أيام ونادى المحتل بمكبرات الصوت يا أهالي بيروت لا تطلقوا علينا النار نحن منسحبون.

لقد جاء اغتيال حاوي في توقيت اختاره المنفذون بدقة... فنتائج الانتخابات الديمقراطية التي جرت بعد خروج سورية من لبنان، وأدت إلى فوز تحالف «14 آذار» فتح الباب أمام لبنان جديد يتجاوز الطائفية وتسوده أجواء الحرية والديمقراطية، فلم يرق ذلك للأنظمة الدكتاتورية المحيطة بلبنان حيث الديمقراطية والتغيير تدخل الرعب في قلوبها.

لمَن ينادون بقانون الستين على قاعدة التمثيل الصحيح، أسأل: عن أي تمثيل تتكلمون؟ إذا كان التمثيل الطوائفي، فانتخابات عام 1957 كانت تمثيلاً صحيحاً على مستوى الطائفة المسيحية، ولكنه لم يكن تمثيلاً صحيحاً على مستوى الوطن، فأنتج من بين أسباب أخرى الحروب والفساد.

أما انتخابات 1992 فتمثلت الطائفة الإسلامية تمثيلاً صحيحاً، إلا أنه لم يكن كذلك على مستوى الوطن ككل، فاستمرت الأزمات واستمر الفساد، فلم نستطع النهوض بالوطن.

في ذكرى اغتيال حاوي، لنعد إلى حلمه وكمال جنبلاط، ولنعمل على بناء الوطن اللبناني ذي الوجه العربي منارة الشرق، الحاضن لأبنائه بطوائفه وانتماءاته جميعها، لنعمل على قانون انتخاب يعتمد الدوائر الكبرى على أساس الاقتراع النسبي الذي يضمن صحة التمثيل الحقيقي للطوائف والوطن، وذلك لأن التمثيل الطائفي الذي يروَّج لاعتماده يحقق إشباعاً للغرائز الطائفية والمذهبية والعصبية بمعزل عن أي فائدة للمواطن، أياً كانت طائفته، حيث تبقى مشاكله على حالها.

لنناضل ليُرفع الغطاء عن القاتل، الذي لو حوكم عندما قتل كمال جنبلاط، لما تجرأ على اغتيال رفيق الحريري وجورج حاوي وسمير قصير وبيار الجميل إلى آخر اللائحة، ولما اغتال قبلهم رياض طه، والمفتي حسن خالد والشيخ صبحي الصالح والرئيس معوض إلى آخر الاغتيالات منذ عام 1975 حتى الآن.

*كاتب لبناني