تهيئ الأزمة المالية العالمية الحالية الأرضية لعودة مدارس الاشتراكية الديمقراطية بقوة إلى الحياة الفكرية والسياسية في أوروبا، ومرد ذلك أن الفشل المدوي لآليات السوق استلزم تدخلاً من الدولة في كل أنحاء المعمورة لحماية مصارفها ومؤسساتها المالية من الانهيار، وهو ما يعني بوضوح فساد الأساس الذي تقوم عليه «الليبرالية الجديدة» من حتمية ابتعاد الدولة عن النشاط الاقتصادي. تعتبر العولمة التحدي الأكثر جذرية على الاقتصادات الأوروبية عموماً، وعلى الاقتصاد الألماني المعتمد على التصدير خصوصاً، وما يقتضيه ذلك من تحسين شروط الإنتاج في الداخل والمنافسة الشديدة الضراوة في الخارج. ولكن الاقتصاد الألماني يعكس أعلى معدلات الأداء بالنسبة للفرد على المستوى العالمي، فألمانيا تتخلف فقط عن الولايات المتحدة الأميركية واليابان من حيث القوة التصديرية الإجمالية، ولكنها تأتي قبلهما كأكبر أمة مصدرة في العالم بالقياس إلى عدد السكان.ينتهي منظرو الاشتراكية الديمقراطية الألمان في تحليلهم للمجابهة الفكرية مع «الليبرالية الجديدة» والعولمة إلى تقديم الجانب الاقتصادي على ما عداه من الجوانب، لإقامة الدليل على بطلان الفرضيات الأساسية لمدرسة «الليبرالية الجديدة». وعلى الرغم من أن تحليلات «الليبراليين الجدد» تتعامل والتطورات في سوق المال العالمية وكأنها هبطت من السماء، إلا أن قرار فك ضوابط أسواق المال العالمية أو «تحريرها» منذ الثمانينيات، كان قراراً سياسياً قبل أن يكون مالياً. كانت شركات المضاربة المالية توصف في المحافل المتخصصة بأنها شركات «مضاربة منظمة»، إلا أن الاشتراكي الألماني الشهير أوسكار لافونتين يسميها شركات «الإجرام المنظم»، في تصعيد جديد لمواقف أقرانه المعاصرين، فالمستشار الألماني الأسبق هلموت شميدت- عن الحزب الاشتراكي الديمقراطي- كان قد طالب في كتابه المهم «العولمة» بقواعد تنظيم حركة رؤوس الأموال على المستوى العالمي وبآليات ضبط ورقابة، كما هي الحال في حركة الملاحة الجوية العالمية. يخلص لافونتين في انتقاده اللاذع لمدرسة «الليبرالية الجديدة» إلى أن الاندماجات المتتالية بين الشركات العملاقة في أوروبا وغيرها، لا تؤثر بشدة فقط في تطور الاقتصاد الوطني محل عملها، ولا في مستوى معيشة المواطنين فحسب، بل أيضاً على هياكل الاقتصاد والمجتمع، فهذه الاندماجات تحرف السياسات الاقتصادية والاجتماعية للدول الأوروبية وغيرها، نحو خدمة مصالح مؤسساتهم المندمجة بشكل أكثر حدة، ويتحكم بقرارات تلك المؤسسات، بحكم منطق الاندماج، أفراد قلائل يخدمون قوى غير مرئية ويتحكمون بعشرات الألوف من فرص العمل؛ وهو ما لا يتطابق مع مبادئ الديمقراطية، فالسلطة الاقتصادية تستحيل بالضرورة سلطة سياسية أيضاً على نحو مضطرد، وهو تطور لاتزال المجتمعات الصناعية على إطلاقها تختبره. وبتقليب النظر في معاني هذا التطور، يتضح أن مجال الصراع الفكري بين اليساريين الديمقراطيين و«الليبراليين الجدد» لا يقتصر على مجالات النشاط الاقتصادي، ولا حتى السياسات الاجتماعية فقط، بل يلامس أحد أكثر نقاط الخلاف أهمية، إذ تعكس صيرورة انقلاب السلطة الاقتصادية سلطةً سياسية تناقضات المنظومة القيمية الأوروبية الغربية مع البنى التحتية التي نشأت فيها، فإن كانت الاندماجات بين الشركات العملاقة تكفل للدول الغربية حصصاً أكبر ومنافذ تصدير أوسع في الأسواق العالمية، الأمر الذي يضمن دوام الرفاه الاقتصادي لمجتمعاتها، ولشرائحها الاجتماعية النافذة خاصة من ناحية، إلا أنه يتحدى مبادئها الراسخة في الأمن الاجتماعي والعدالة لأوسع شرائحها الاجتماعية من ناحية أخرى، فمن الصحيح أنه كلما تزايدت أرباح الشركات العملاقة، زادت قدرتها على توظيف أكثر، إلا أنه في المقابل أيضاً صحيح، أنه كلما اعتمدت هذه الشركات على التقنيات المتطورة، استطاعت التقليص من أعداد موظفيها وارتفعت ربحيتها. اعتماداً على تلك البديهة يخلص الاشتراكيون الديمقراطيون إلى أن ملكيات الدولة، بجانب الملكيات الخاصة، تبقى المؤهلة أكثر من غيرها لتحقيق معدلات عالية للتوظيف، الأمر الذي يجعلها إحدى الوسائل الفعالة للمحافظة على النظام العام، وإحدى الأدوات التي لا تستغني عنها المجتمعات الديمقراطية، لمكافحة الآثار المترتبة على الاندماجات العملاقة للحفاظ على فرص التوظيف وبالتالي على حرية الأفراد، أي في الإجمال، الآلية التي لا يتهيأ للمجتمعات الحديثة النهوض والرقي إلا من طريقها. وإذ ينتقد الاشتراكيون الديمقراطيون «اليد الخفية» التي تحرك قوى السوق وتعيد التوازن إلى الأسواق حسب المفهوم الرأسمالي التقليدي، فهم يطالبون في نفس الوقت بأن تتحول هذه «اليد الخفية» التي تتحكم بالاقتصاد وبالتالي السياسة أيضاً، إلى يد مرئية ومعلومة للجميع؛ فليست قوى السوق هي المنوطة برسم مستقبل مئات الملايين من البشر، بل البرلمانات والحكومات المنتخبة ديمقراطياً، فكيف يمكن أن يطالب المرء بدولة القانون والنظام العام من ناحية، وبتطور اقتصادي منفلت من ناحية أخرى؟تذهب إلى المطار مغادراً برلين وشعور بالتقدير العالي يغمرك لهذا البلد ولثقافته، ولمساجلاته الفكرية الراقية والرائعة!* مدير مركز الشرق للدراسات الإقليمية والاستراتيجية - القاهرة.
مقالات
ألمانيا كمان وكمان (4-4): القلب يخفق يساراً!
27-11-2008