ألقى الناقد السعودي محمد العباس، قبل ستة أسابيع، محاضرة في رابطة الأدباء تحت عنوان: «الرواية الكويتية الحديثة، فن الكتابة خارج نسق البحر والنفط»، تناول فيها أعمال ثلاثة روائيين شباب هم: سعد الجوير، هديل الحساوي، بثينة العيسى. أثارت المحاضرة الكثير من الأسئلة ومحاور النقاش، إذ أبدى بعض الحضور اعتراضهم على عنوانها، معتبرين أنه لا يتلاءم ومضامين النصوص، والبعض الآخر على آلية القراءة وأسماء الكتاب الثلاثة باعتبار أنهم لا يمثلون الرواية الكويتية الحديثة وأن هناك روائيين آخرين أجدر بتمثيل المشهد الروائي الحديث في الكويت.

Ad

بعد ذلك بأيام، قرأت تقريراً في إحدى الصحف المحلية يستعرض بعض محاضرات رابطة الأدباء، يشير إلى أن العناوين لا تتواءم ومضمون الدراسات المقدمة فيها، ذاكراً مثالين أحدهما يتمحور حول محاضرة العباس آنفة الذكر.

حين أعود بذاكرتي إلى الوراء قليلاً، أتذكر أن الناقد البحريني محمد البنكي ألقى محاضرة في معرض الكويت للكتاب عام 1999 بعنوان: «نماذج من ملامح التجديد في القصيدة الكويتية» وأثارت في حينها الكثير من الأسئلة، تمحورت في مجملها حول العنوان ومدى مطابقته للنصوص المقروءة ومدى أهمية الشعراء الذين اختيروا، وما إذا كانوا يمثلون القصيدة الكويتية المعاصرة خير تمثيل.

يتضح من الأمثلة الثلاثة السابقة أننا نواجه مشكلة في آلية تلقي الخطاب النقدي أو في فهم أساليب القراءة النقدية المعاصرة. حين تستقر في مخيلتنا مقولات مثل: «تعدد القراءة، تعدد دلالات النص الواحد، أفق التلقي، إشارية اللغة وسيمياء العنوان» لن نعترض بالتأكيد على عنوان محاضرة، أو نماذج إبداعية اتخذها الناقد منطلقاً لدراسته، مهما تكن قناعاتنا بشأن هؤلاء المبدعين أو نصوصهم المختارة. ليس من العدل أن نتوقع توافق الرؤى ووجهات النظر بين ما نراه نحن في النص وما يراه الناقد أو القارئ الآخر، أياً تكن هويته وأدواته المستخدمة.

من سمات النص الإبداعي أنه متعدد الأوجه والدلالات، بالإضافة إلى أن كل قراءة قد تتولّد من قراءة أخرى. حتى بالنسبة إلى القارئ أو الناقد الواحد، قد يقدم اليوم قراءة في نص ما، ثم يقدم بعد أشهر أو سنوات قراءة مختلفة في النص ذاته، بحسب الأدوات المستخدمة وزاوية الرؤية. ولّى عهد القراءة الواحدة أو الحكم المطلق على النصوص. لم يعد الناقد نبياً يوزع شهادات الفوز والخلاص على بعض المبدعين ويواري أو يدفن البعض الآخر، لضعف نصوصهم. أصبح النقاد يقدمون نصاً موازياً، يحتاج هو الآخر إلى قراءة أو «نقد النقد» كما يسمّى. من هنا يمكن القول أن النص وحده يفرض حضوره وطريقة قراءته.

بات الدخول إلى النص المعاصر بأحكام مسبقة أو نظريات جاهزة أمراً صعباً للغاية، يمكن أن يكتشف الناقد محاور وبؤر دلالية بين مجموعة من النصوص، بعد قراءتها قراءة متأنية، يتخذ من هذه المحاور منطلقاً لقراءة نقدية. حتى وإن اختلف المبدعون أو تعددت مشاربهم وأدواتهم الأبداعية، ما يهمنا هنا هو «المحور»، منطلق الدراسة، سواء كان لغوياً أو أسلوبياً أو من حيث المضمون. أما ما يقال من أن بعض المبدعين لا يمثلون جيلهم خير تمثيل أو أن هناك مبدعين آخرين هم أحق بالدراسة، هو جدل عقيم لن يؤدي إلى نتيجة، لأن الناقد ينطلق من محاور ومواضيع مستقاة من عمق النصوص وليس لاعتبارات تتعلق بمكانة المبدعين أو أحكام نقدية مسبقة عنهم.