علينا في العالم العربي أن نشرع دون تسويف في نقاش موضوعي وصريح حول تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية والاستراتيجيات المثلى للتعامل معها. فما أن بدأت إرهاصات الأزمة في التبلور وتخطي حدود الولايات المتحدة الأميركية خلال خريف 2008، حتى سارعت الحكومات العربية- وعلى اختلاف مواقع دولها في المنظومة الاقتصادية العالمية من دول مصدرة للنفط والغاز في منطقة الخليج والعراق وليبيا والجزائر إلى دول ذات قواعد صناعية وزراعية وخدمية متفاوتة كالمغرب وتونس ومصر ولبنان والأردن وسورية إلى دول فقيرة كاليمن وموريتانيا تعتمد بالأساس على المعونات الدولية وتحويلات عمالتها المهاجرة- للقطع بعدم تأثر اقتصادياتها بالأزمة العالمية وبكون الأخيرة لا تعدو أن تكون سوى أزمة في القطاعات المالية والمصرفية الغربية ولن ترتب إلا شيء من الخسارة في الاستثمارات العربية في الخارج. وعندما بات واضحاً أن ما يتهدد الاقتصاد العالمي هو خطر أول كساد منذ ثلاثينيات القرن الماضي وتوالت في الآونة الأخيرة البيانات الصادرة من العواصم الغربية والمؤسسات الدولية المشددة على انخفاض معدلات النمو الاقتصادي وصعوبة الأعوام القادمة وسجلت المؤشرات الاقتصادية الأساسية في العالم العربي تحولات سلبية، تبددت حالة الإنكار الرسمي العربية بالغة اللاعقلانية وأضحى من الضروري تطوير مقاربات أكثر واقعية تشرح تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية وتستجيب للتحديات الكبرى التي تطرحها وتخبر المواطنين بشفافية بما ينتظرهم في الغد القريب. وعلى الرغم من أن بعض مسؤولي الملفات الاقتصادية في الحكومات العربية قد خرج عن صمته خلال الأسابيع الأخيرة وتحدث في لقاءات إعلامية متتالية بصراحة نسبية عن تداعيات الأزمة العالمية، إلا أن الخطاب الرسمي العربي مازال في المجمل يتسم بغياب الصدق وتعوزه الشفافية. فالثابت أن الدول المصدرة للنفط وفي مقدمتها دول مجلس التعاون الخليجي تعاني منذ خريف 2008 صعوبات حقيقية تتفاوت من انخفاض معدلات النمو وعجز متصاعد في الموازنات العامة في السعودية والكويت وقطر والإمارات مع هبوط سعر النفط إلى ما دون 40 دولارا للبرميل مروراً بانهيار شبه كامل في قطاعات البناء والاستثمار العقاري وهما شكلا مراكز حيوية للنشاط الاقتصادي إلى انحسار كبير في القدرات المالية والمصرفية، خصوصا في إمارة دبي التي توشك اليوم وبعد أن مثلت نموذجاً للتقدم في الخليج على الإفلاس. ويتواكب مع ذلك ظواهر مجتمعية مهمة تستحق الرصد ترتبط على سبيل المثال لا الحصر بهجرة عكسية للعمالة الوافدة الآسيوية والعربية من الخليج عائدة إلى الدول التي جاءت منها (فتشير التقارير اللبنانية الراهنة إلى عودة ما يقرب من 4000 لبناني كل شهر من الخليج كما تتواتر بيانات تتحدث عن أعداد كبيرة من العمالة البسيطة تغادر دبي يومياً بعد إلغاء تصاريح عملها في قطاع البناء والخدمات ومشاريع البنية التحتية) وبتعثر الشركات الاستثمارية الخليجية والمواطنين الذين أقبلوا على الاقتراض ومن ثم تعالي المطالبات الشعبية بضرورة تدخل الحكومات لمساعدتهم وإعادة جدولة ديونهم حتى إن استدعى الأمر استخدام أموال الصناديق السيادية (أسس معظم دول الخليج صناديق حكومية ادخر بها الفائض من أموال الفورة النفطية خلال الأعوام الماضية وسميت بالصناديق السيادية لأنها وضعت تحت تصرف الحكومات لتوظيفها في استثمارات داخلية أو خارجية). وعلى الرغم من عمق وخطورة كل هذه التحولات وكونها على الأرجح ستستمر مع دول الخليج لفترة ليست بالقصيرة، فإن التعامل الرسمي معها مازال يتسم بقصور بيِّن لجهة إخبار المواطنين بحقيقة ما يجري ولجهة طرح الحلول المقترحة للنقاش العام.أما في الدول العربية غير المصدرة للنفط كالمغرب ومصر والأردن ولبنان، فتأخذ تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية أشكالاً ومضامين أخرى. يرتب هبوط معدلات النمو الاقتصادي من نسب 7 و8 في المئة التي شهدتها الأعوام القليلة الماضية إلى ما لا يزيد عن 4 في المئة (في أكثر التقديرات الدولية والوطنية تفاؤلاً) ارتفاع في معدلات البطالة والفقر وتلك بدايةً لم تكن بالمنخفضة (تزيد نسب البطالة عن 10 في المئة في الدول الأربع وتتجاوز نسبة الفقر حاجز 20 في المئة في المغرب ومصر). تعاني أيضاً القطاعات الصناعية والزراعية من جراء الأزمة العالمية التي تسبب تراجعاً في الطلب الغربي (الأوروبي تحديداً) على استيراد منتجات هذه الدول ومن ثم يتزايد اختلال ميزانها التجاري (العلاقة بين الصادرات والواردات) وكذلك تتأثر القطاعات نفسها من جراء تعثر دول مجلس التعاون الخليجي التي حتماً ستحد كثيراً من استثماراتها العربية. وتتكرر الصورة السلبية نفسها وعلى نحو يزيد من عجز الموزانات العامة حين النظر إن إلى القطاعات الخدمية- خصوصا السياحة والنقل ومرافق أخرى بعينها كقناة السويس في مصر- التي هبطت إيراداتها سريعاً خلال الربع الأخير من العام الماضي بفعل انخفاض الطلب العالمي عليها، أو إلى تحويلات عمالة هذه الدول في الخارج وتلك ستتراجع بقوة مع عودة العمالة من الخليج وتدهور الوضع المالي لمن سينجح في البقاء. وربما تمثل أخطر تداعيات الأزمة الاقتصادية على الدول العربية غير المصدرة للنفط في التصاعد المتوقع للتوترات الاجتماعية وما يستتبعها من تهديد للاستقرار المجتمعي في دول فقيرة بالأساس لم تنجح في حل مشكلاتها الكبرى وأمل البعض في أن يمكنها استمرار معدلات النمو المرتفعة نسبياً خلال الأعوام الماضية من إنجاز تحولات إيجابية في هذا الصدد. ومع أن بعض المسؤولين السياسيين والتنفيذيين في المغرب ومصر والأردن ولبنان- وكما أشرت أعلاه- شرع في الأسابيع الأخيرة في الحديث بصراحة عن تداعيات الأزمة، فإن الخطاب الرسمي مازال يبالغ في تقدير الإمكانات الذاتية للخروج منها ويتسم بمحدودية الشفافية، خصوصا فيما يتعلق بالحلول المقترحة إلى الحد الذي دفع أصحاب الأعمال في بعض هذه الدول لتوجيه انتقادات مباشرة للحكومات على تباطؤها وولَّد حالة من القلق لدى عموم المواطنين.لا بديل أمام الحكومات العربية في اللحظة الصعبة الراهنة سوى التخلي عن ممارستها المعهودة في عدم إخبار المواطنين بالحقيقة وزهدها في إشراكهم في نقاش عام وعلني حول ما يجري، وإتباع الشفافية والواقعية كنهج وحيد لضمان تفاعل المواطنين الإيجابي مع الحلول المقترحة للخروج من الأزمة وقبل ذلك تحملهم لتداعياتها الخطيرة دون تهديد للاستقرار والسلم المجتمعي.* كبير باحثين في مؤسسة «كارنيغي» للسلام الدولي
مقالات
الحكومات العربية والأزمة الاقتصادية العالمية... في أولوية الشفافية
25-02-2009