من الشائع العادي حالياً، لجهل أو قصد، أن يحدث الخلط بين الليبرالية والليبرالية الجديدة، وبين الليبرالية والديمقراطية، ومن الشائع أيضاً أن يحدث مثل هذا بين الليبرالية والديمقراطية الاجتماعية. في جذر الأخير خلط غيره بين الديمقراطية الاجتماعية والاشتراكية الديمقراطية، الثورية بتعبير آخر. دَبَق الموضوع لا يعفي من تناوله.فمثل هذا التداخل موجود عالمياً بحدود أضيق مما هو لدينا، وقد لا تختلف برامج الديمقراطية الاجتماعية أحياناً عمّا يسمّيه الأميركيون بالليبرالية، ويتركّز في صفوف الحزب الديمقراطي أو حوله هناك. ومنتقدو الديمقراطية الاجتماعية لا يرون ما يميّزها عمّا يأتي به الليبراليون، إلاّ ما تبقّى فيها من آثار اشتراكية قديمة، لكنهم يعترفون بأنها الأكثر تسامحاً واستيعاباً للأجنحة اليسارية، ودفاعاً عن الأقليات وعداءً للتمييز والتهميش، وارتباطاً بالثقافة والمثقفين بكل اهتماماتهم. هؤلاء الثوريون يرون، عن حق أحياناً، أن للديمقراطية الاجتماعية نسقاً معيّناً من الممارسات التي تنطلق من محددات عامة تضم التدرّجية «التقدم خطوة خطوة»، والانتخابية أو البرلمانية «الاعتماد على النجاح في الانتخابات لتمرير التشريعات المطلوبة»، والدولتية (الاستناد إلى مبدأ تسيير الأمور من الأعلى إلى الأسفل، من دون ديمقراطية «متجذّرة»). ويقرّون أيضاً بأن الديمقراطية الاجتماعية تلتزم النزعة الدستورية في بنية الدولة وآليات عملها.ويتّهم الثوريون الديمقراطيين الاجتماعيين بالفشل في التمسّك بالاشتراكية والدعوة إليها، وبتحويلها إلى مجرّد ملكية الدولة أو «رأسمالية الرفاه» (كما يصحّحون مفهوم دولة الرفاه). في حين أنهم- هم الثوريون- يتمسكون بحق العامل «والجماعة» في تسيير شؤونه ذاتياً. كما يريدون أيضاً أن يتمّ اختيار المديرين بالانتخاب، لتتمّ مراقبتهم ومحاسبتهم من قبل العمال مباشرة... وقبل ذلك تتطلب برامج الاشتراكية الديمقراطية أن يكون هنالك ملكية اجتماعية لوسائل الإنتاج الأساسية على الأقل، تمهيداً لإلغاء النظام الرأسمالي نفسه في نهاية المطاف.تجربة الاشتراكيين الديمقراطيين الحاليين مع التجارب الاشتراكية السابقة، ووعيهم لكون العامل في تلك الحالة مجرّد دمية في مؤسسة تُدار بطريقة دكتاتورية، وتقديرهم «الحقيقي» لحالة غريبة تجعل الحكومة المعنية تُواجه بمقدار من «التخريب» أو «كبح الإنتاج» أكثر بكثير من البلدان الرأسمالية. درجة إحباط العامل بالذات أكبر، بسبب حجم التوقّعات والآمال في الأساس.الحكومات من هذا النوع تحدّ بعنف «ووقاحة» من زيادات الأجور وتصادر الحريات، بالتعاون مع القيادات النقابية والحزبية المختصة، بطريقة أكثر تعسفاً ونفاقاً بكثير من تلك الملحوظة في الحالة الرأسمالية. وهي تعتمد أيضاً على الشعارات الأكبر حجماً والأكثر تجريداً من أجل قمع أي حالة غضب يمكن أن تظهر أو تتجسّد في احتجاجات ملموسة.وإذا كانت المسألة مجرد موقف من تدخل الدولة في ملكية المؤسسات، فها هي كبريات دول الغرب تلجأ إلى شراء الحصص في المؤسسات المالية الكبرى وشركات التأمين ولا نعرف ماذا أيضاً. أما إذا كانت ميلاً إلى تأمين ممارسة الديمقراطية المباشرة في الأطر والمؤسسات والجماعات الأصغر من مجتمع شامل، فهذا ليس مدخلاً إلى تقسيمات أخرى لوحدة المجتمع والدولة فحسب، بل إنه قد يكون تعبيراً عن ميول نخبوية يسارية لا تتوقف عند حدود ولا تعترف بعلوم موضوعية.وباختصار، الديمقراطية الاجتماعية ليست ليبرالية بالصفة التي يريدها البعض اسم علم، مع أنها لا تنفي اعترافها بالليبرالية كجزء مكوِّن منها، هي التي لا تتحوّل إلى ديمقراطية إلاّ من خلال ما هو جمعي، أي الشعب نفسه. وليس هذا تناقضاً مع أولوية حقوق الفرد والمواطن، بل هي «وحدة وافتراق المتعارضات» إن جاز القول.وهي يسار بالتأكيد، وإن كانت تتراوح بينه وبين يسار الوسط كما يقولون في ذلك العالم.وبأخذ المعارضين السوريين مثالاً، يبدو كثير من المعارضين أقرب إلى الديمقراطية الاجتماعية، ولا تكفي الشطحات الليبرالية المغالية أو الاتهامات المضادة لتغيير هذه الحقيقة.أما الثوريون الذين يقولون إنهم ديمقراطيون، فلهم أن يقبلوا الديمقراطية بالمعايير السائدة ويسهموا إيجابياً في تأسيسها، وهم ليسوا مطالبين بنبذ برامجهم، ولو كانت تتضمن إلغاء النظام الرأسمالي كله في النهاية، فهذا حقّهم، ولكن بالأصول الديمقراطية وحق التداول الذي لا يدول.الديمقراطيون الاجتماعيون ديمقراطيون أولاً والاشتراكيون الديمقراطيون ثوريون أولاً. ولن تكون الديمقراطية، ما لم تحظ بأولويّتها. والأولوية هذه لا بدّ من قبولها بالمبدأ، أو بالتاريخ على الأقل، ذلك لأن الدور التاريخي العظيم لمفهوم الثورة قد انتهى في الغالب الأعمّ.انقسم الثوريون القادمون من القرن التاسع عشر إلى شيوعيين واشتراكيين ديمقراطيين، حول التغيير والتقدم: هل هو من خلال الديمقراطية المتوسّعة باستمرار، أم الثورة. ولا بدّ أن ينتهي هذا النقاش الآن، إلاّ في صفوف نخبة ثقافية أو فنية لا اعتراض على هواها.* كاتب سوري
مقالات
اجتماعيون أم ثوريون؟
14-12-2008