خطف الرئيس الأميركي باراك أوباما الأضواء من جديد حين توجه إلى إيران وقادتها السياسيين مباشرة ولأول مرة برسالة تهنئة بمناسبة العام الفارسي الجديد (النيروز)، فاتحاً مرحلة نوعية جديدة من العلاقات الأميركية-الإيرانية. ويعتبر عيد النيروز أهم الأعياد الإيرانية على الإطلاق وفيه يتبادل الأصدقاء تقليدياً الرسائل والتهاني، وهو عيد مستمد من التقاليد الزرادشتية القديمة التي تعتبر أن العام الجديد يبدأ عندما تتعامد الشمس تماماً على خط الاستواء وتلقي بأشعتها على القطبين الشمالي والجنوبي في نفس الوقت.جرت العادة أن يدور عيد النيروز حول يوم 21 مارس من كل عام، وعلى أقصى تقدير قبلها بيوم أو بعدها بيوم. ولكن بعيداً عن المبررات الشمسية والحسابات الفلكية للعيد فإن رسالة أوباما هي رسالة سياسية بامتياز تأتي في سياق الإشارات التي ترسلها إدارته إلى إيران منذ انتخابه، وهي مع ذلك أوضح الإشارات وأكثرها مباشرة حتى الآن. ثمن أوباما في رسالته غير المسبوقة دور الثقافة الإيرانية في الحضارة الإنسانية وأظهر فيها احتراماً كبيراً للأمة الإيرانية وحضارتها، وللتأكيد على هذا المعنى فقد قام أوباما باقتباس بيت من أشعار شاعر إيران الكبير سعدي بيت من الشعر يقول فيه ما معناه: «أولاد آدم يشبهون بعضهم بعضاً لأنهم خلقوا من طينة واحدة».يعرف الرئيس الأميركي أن اقتباس الأبيات الشعرية عادة محببة لدى الإيرانيين، وبالتالي فهو يستهدف أن تلقى رسالته التاريخية أوسع قبول شعبي ممكن، وللتأكيد على وصول المعاني التي تضمنتها رسالته فقد اختار أوباما أن يختمها باللغة الفارسية قائلاً: عيد شما مبارك (عيدكم مبارك). تمثل رسالة أوباما قطيعة واضحة مع تراث سلفه جورج دبليو بوش الذي أكثر من توجيه رسائل التهديد إلى إيران، دون أن يستطيع أن يفعل شيئاً حيالها؛ وبدلاً من تلك السياسة التي لم تنفع المصالح الأميركية في المنطقة فإن أوباما ينفذ ما سبق أن وعد به أثناء حملته الانتخابية، أي فتح قنوات الحوار مع إيران. المتفحص لمعاني الرسالة يلاحظ ربط أوباما بين عودة إيران لتبوء مكانها الطبيعي في المجتمع الدولي بنبذ العنف والإرهاب، أي بمعنى أوضح يقول أوباما إن العزلة الدولية المفروضة على إيران يمكن أن تنتهي في حال تغير سلوكها السياسي. يقود تحليل المضمون لرسالة التهنئة إلى أن أوباما يطالب النظام الإيراني بتغيير سلوكه، ولا يستهدف بأي حال تغيير النظام كما هدد سلفه عشرات المرات طيلة السنوات الماضية. كانت الرسالة علامة فارقة في تاريخ العلاقات الأميركية-الإيرانية، ولكن الرد الإيراني جاء إيرانياً يوارب الباب ولا يغلقه ولكنه لا ينفتح على مصراعيه في الوقت نفسه. شدد مرشد الثورة الإيرانية، في كلمة ألقاها بعد ساعات قليلة من إذاعة رسالة أوباما على أن التصرفات يجب أن تسبق الأقوال، وأن بلاده ستتغير إذا ما تغيرت أميركا أولاً وأنهت الحصار الاقتصادي المفروض على إيران، وأفرجت عن أرصدة إيران المجمدة في البنوك الأميركية وكفت عن مهاجمتها سياسياً وإعلامياً. ولم تكتف إيران برد المرشد الذي يطالب واشنطن بدفع أثمان مقدماً لتحسين العلاقات، بل أرسلت له رسالة سياسية واضحة المعنى والمغزى في ساحة أخرى غير ساحة الإعلام. في ذات يوم النيروز كان وزير الخارجية الإيرانية يزور مدينة مزار شريف الواقعة في شمال أفغانستان للاحتفال هناك بالنيروز، ففي الوقت الذي تطلب فيه واشنطن مساعدة طهران في أفغانستان وتوافق على دعوتها لمؤتمر دولي حول أفغانستان، تريد طهران إظهار عضلاتها لواشنطن في أفغانستان. لا يخفى أن حركة طالبان هي الواجهة السياسية للباشتون أكبر أعراق أفغانستان عدداً، والأخيران مدعومان تاريخياً من باكستان، في حين تتوزع أقليات أفغانستان العرقية على أعراق الطاجيك والأوزبك والهزارة، الذين شكلوا نواة «التحالف الشمالي» المناوئ لحركة طالبان. وتدعم الهند «التحالف الشمالي» بسبب صراعها التاريخي مع باكستان داعمة الباشتون، ولأن روسيا تخشى من انتشار الحركات الإسلامية الأصولية في آسيا الوسطى فقد كانت على الدوام معارضة لطالبان أيضاً. أما إيران التي تتشارك مع الطاجيك في اللغة الفارسية ومع الهزاره في الانتماء الطائفي، فقد أرست سياستها في أفغانستان على هذين العمودين وتحالفت إقليمياً ودولياً مع الهند وروسيا لمواجهة طالبان ومن ورائها باكستان. استهدفت جولة وزير الخارجية الإيراني إظهار أن بلاده تستطيع رص صفوف «التحالف الشمالي» مرة أخرى وتعطيل أي اتفاق أميركي مع طالبان من جديد، أي بمعنى أخر تلوح إيران بأوراقها القوية في أفغانستان أيضاً وليس الشرق الأوسط فقط. أفلحت طهران في فرض واقع جيوبوليتيكي جديد عبر تمديد نفوذها بالمنطقة، وصمدت أمام الضغوط الأميركية لسنوات سواء في ملفها النووي أو في علاقتها بـ«حزب الله» اللبناني أو حركة «حماس» وليس انتهاء بالفصائل السياسية العراقية المختلفة. ولم تصمد إيران أمام الضغوط الغربية فقط، بل ناورت وراوغت ونفذت من خلال الفراغات الافتراضية والتناقضات السياسية بين دول المنطقة لتحقيق مصالحها الوطنية. تقول رسالة النيروز الإيرانية لأوباما إن طهران ليست في عجلة من أمرها، وإنها تملك مفاتيح حل المشاكل في العراق وأفغانستان. ويقول التحليل المنصف إن الحسابات الإيرانية كانت– حتى الآن- دقيقة وواقعية بمعايير الشرق الأوسط، ولكن عملية صنع القرار في واشنطن تجري وفق حسابات ومعايير أخرى، ولذلك فمازالت حائلاً أمام تحقق الطموحات الإيرانية! رسائل النيروز دخلت تاريخ العلاقات الإيرانية-الأميركية من أوسع أبوابها. * مدير مركز الشرق للدراسات الإقليمية والاستراتيجية-القاهرة
مقالات
رسائل النيروز من واشنطن إلى طهران
26-03-2009