أثار معرض الآثار المصرية "بونابرت ومصر... نار ونور» الذي أقيم في فرنسا أخيراً، ردود فعل غاضبة في مصر، اذ اعتبر مثقفون أنه يدعو إلى حقبة مريرة في التاريخ المصري وهي الاحتلال الفرنسي. كذلك جاءت التصريحات الرسمية التي أعلنها وزير الثقافة المصري فاروق حسني مثيرة للجدل عندما اعتبر المعرض احتفاءً بالنهضة وليس بالغزو العسكري. أعادت المعارضة للاحتفاء بذكرى "نابليون”، ومشاركة مصر فيها إلى الأذهان تلك الاحتفالية المماثلة، التي شاركت فيها مصر، قبل ثمانية سنوات بمناسبة مرور مائتي عام على الحملة الفرنسية على مصر، وتنظيم عام ثقافي مشترك بين مصر وفرنسا في هذه المناسبة، ما أثار جدلاً هائلاً بين المثقفين وانتقادات واسعة وجهت إلى وزارة الثقافة على مشاركتها في هذا الاحتفال.في هذا السياق يبدي المؤرخ قاسم عبده قاسم رفضه مشاركة مصر في المعرض والزعم أن الغرض منها إبراز النهضة، ويقول: {إذا كانت المشاركة تعني الاحتفاء بالنهضة، ولا ننسى الاحتفال السابق بمرور 200 عام على ذكرى الحملة الفرنسية، فأين يمكن أن نضع الجانب العسكري والغزو إزاء تلك الاحتفالات؟ وإذا كان لا بد من الاحتفاء بذكرى بونابرت، فإنه من الضروري إبراز الجانب التنويري الذي يحتفي به البعض، والدور العسكري والاحتلالي الذي جاءت به الحملة الفرنسية إلى مصر.يفنّد أستاذ الآثار أحمد الصاوي دور الحملة وعلاقة المعرض الأثري بها موضحاً أن {نار ونور} نابليون ليس المحاولة الفرنسية الأولى من نوعها، وقطعاً لن تكون الأخيرة، لتوكيد الادعاء بأن الاستعمار الأوروبي لبلدان العالم الثالث كان رسالة إنسانية هدفها تمدين الشعوب البربرية وإنقاذها من ظلمات العصور الوسطى وبراثن الجهل والتخلّف.يضيف الصاوي: "دفعت فرنسا سابقاً أموالاً لمساعدة مخرج مصري شهير في إنتاج فيلم عن الحملة الفرنسية في مصر ودورها التنويري، ومولت أيضاً استخراج أسطول نابليون الغارق من أمام شواطئ الإسكندرية مثلما دعمت احتفال مرور 200 عام على حملة بونابرت في الشرق العربي}.اعتذار تاريخييقول البعض إنه لا يصح أن نتوقف عند مرارات الماضي، بل يجب أن ننظر إلى الفوائد التي جلبتها حملة بونابرت وليس إلى سلبياتها فحسب؟يرد الصاوي: {من المُنصف أن نعترف لمثل وجهات النظر تلك بالموضوعية إذا ما نجحت في أن تحمل الفرنسيين على الاعتراف بأن حملة بونابرت كانت نشاطاً استعمارياً حرّكته أطماع النخبة الفرنسية للانتصار على إنكلترا بقطع طريق مواصلاتها إلى الهند، وأن تلك الحملة ألحقت بالشعب المصري ومقدراته الحضارية خسائر تستوجب الاعتذار التاريخي. بالإضافة إلى أن تكون وجهة النظر الوطنية المصرية حاضرة في مواجهة غريمتها الفرنسية ليس بالشعارات التي لا معنى لها، بل بالمعروضات والمقتنيات المتحفية والوثائقية التي تدعمها وتفصح عن حججها الدامغة.يشير الصاوي إلى أن التحف التي حُملت من مصر إلى المعرض، بعضها لا علاقة له بالحملة الفرنسية على مصر والبعض الآخر لا يحمل أي وجهة نظر تنبئ عن طبيعة الحملة الاستعمارية والعدوانية، ما يعني أن المشاركة الرسمية تعني مباركة المقولة الاستعمارية العتيقة عن رسالة الرجل الأبيض في نشر المدنية.يوضح الصاوي أن الموافقة على المشاركة في معرض {نار ونور نابليون} تدعم ضمناً جملة من الخرافات والأباطيل التي حان وقت التصدي لترهلاتها وتخيلاتها. تلك الخرافات، بحسب الصاوي، تتضمن {إيهاماً} بأن حملة بونابرت هي السبب في طغيان العنصر الفرنسي في مساعي التحديث في مصر، لا سيما خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر وتلك محاولة مفضوحة لخلط الأوراق. الاتصال الحضاري الأول، بحسب تعبير شيراك، أعقبه توتّر واضح في العلاقات بين فرنسا والأراضي العثمانية كلها، ولم تسفر عنه أية ارتباطات ثقافية بل إن بعض الإعجاب الذي أبداه مؤرخ مثل الجبرتي كان مخلوطاً أيضاً بانتقادات لاذعة لميل علماء الحملة نحو التضخيم من حيلهم العلمية والتي كان بعضها معروفاً للمصريين مثل المنضاد الذي فشل إطلاقه فوق بركة الأزبكية، ما أثار تهكم الجبرتي الذي أكد أن الطيارين {عمال الفراشة} يأتون بأفعال شبيهة به.لا جدال في أن التأثير الفرنسي في الثقافة الحداثية في مصر إنما هو عائد بشكل أساسي الى البعثات العلمية التي أوفدها محمد علي باشا إلى فرنسا والتي استمرت بصورة متقطعة.حملةفي سياق متصل، لا بد من التذكير بأن حملة بونابرت قتلت أعداداً لا تحصى من المقاومين المصريين والشوام والمغاربة بعد هزيمة العثمانيين والمماليك. قضى هؤلاء نحبهم في ثورتي القاهرة الأولى والثانية وفي معارك الوجه البحري والصعيد، بطلقات البنادق والمدفعية التي أمطرها رسل الحضارة الأوروبية على الأزهر وباب الفتوح والجمالية وبولاق من دون هوادة أو رحمة لتركيع المدينة الثائرة ضد المحتل الغاصب. تتجاهل باريس إعدام قائد المقاومة في الاسكندريّة محمد كريم (مغربي الأصل)، واعدام الحاج مصطفى البشتيلي الزيات عندما أجبرت ثوار بولاق على ضربه بالعصى حتى الموت.كذلك لا تشير فرنسا الى واقعة تعذيب سليمان الحلبي قاتل كليبر قبل إعدامه بـ{الخازوق} وترك جثته طعاماً للطيور أمام سكان القاهرة ثلاثة أيام . كم كان حرياً بوزارة الثقافة المصرية أن تحمل ضمن مقتنياتها نسخة من كتاب محاكمة سليمان الحلبي الذي طبع على مطابع الحملة الفرنسية والذي يشف عن عدل الفرنسيين الذي أباح لهم تعذيب الحلبي على اعتبار {أنه من عوايد البلد أن المتهوم لا بد من أن ينضرب حتى يقر}! ولمن لم يدركه الوعي فإن الخزانة التيمورية في دار الكتب المصرية تحتفظ بنسخة أصلية من الكتاب. تغفل الذاكرة الفرنسية أن بونابرت كان أول من حمل معه في غزوه للشرق مشروع إنشاء دولة يهودية على أرض فلسطينية، تعاون فرنسا في بلاد العرب، وتتناسى واقعة دك بونابرت للجامع الأزهر بالمدافع، واستباحة ساحته بخيول ربطت بسواريه وتغوطت على أرضه، ونهب الكثير من مخطوطات مكتبة الأزهر. وإذا كان بعض المتاحف الفرنسية أمدّ المعرض بالمقتنيات التي نهبت من مصر، فقد كان على الجانب المصري، بالمثل، أن يعرض في المكان نفسه قائمة بالمساجد والمدارس والقصور والمقابر التي دمرتها قوات الاحتلال الفرنسي أثناء الحرب ومحاولات قمع ثورتي القاهرة الأولى والثانية، أو بسبب توسيع الطرقات أمام القوات ومدفعيتها لتسهيل قمع الانتفاضات ضدها. قد يحق لفرنسا تصوير حملة نابليون الاستعمارية على أنها نوع من {الاتصال الحضاري}، لكن من الواجب علينا أن نجابه الغوايات الفرنسية بالحقائق التي تتهرب منها.
توابل - ثقافات
بونابرت ومصر... نار ونور يثير ضجة في الوسط الثقافي المصري
22-10-2008