عندما علقت في مقال الاثنين 20-11على الحكم الصادر بجلسة 16-11- 2008 من الدائرة الإدارية في المحكمة الكلية بوقف التعامل بالبورصة، بصفة مستعجلة إلى أن تفصل المحكمة في موضوع دعوى إلغاء القرار السلبي من البورصة بالامتناع عن التدخل في البورصة بوقف التعامل، لم يستوقفني ما بنت عليه المحكمة حكمها برفض الدفع بعدم اختصاصها، تأسيسا على ما بنت عليه بأن التدخل أو عدم التدخل في أعمال البورصة لا يعتبر من أعمال السيادة.

Ad

وهو الدفع الذي دفعت به الحكومة، لأنني اعتبرت هذا الأمر من المسلمات، بعد أن توارت نظرية أعمال السيادة وتضاءل تطبيقها أمام الدعوة إلى التضييق من نطاق تطبيقها، بحيث لا تطبق إلا في أضيق الحدود، وذلك لبسط رقابة القضاء على كل أعمال السلطة التنفيذية، إلى أن طالعنا الحكم الصادر في الإشكال الذي قدمته الحكومة بوقف تنفيذ الحكم، والذي أضفى على هذه الأعمال وصف أعمال السيادة، ليخرجها من ولاية القضاء، وليوقف تنفيذ الحكم الصادر من الدائرة الإدراية بوقف التعامل في البورصة، وهو الحكم الذي كان موضع تعليقنا في مقال الاثنين الماضي تحت العنوان نفسه.

نشأة فكرة أعمال السيادة

وقد نشأت فكرة أعمال السيادة في فرنسا، كنظرية قضائية استعان بها مجلس الدولة الفرنسي لتقليص رقابته على أعمال السلطة التنفيذية، خوفا من بطش نابليون به، وكان مجلس الدولة من صنع نابليون، في وقت كانت فيه مشاعر الحذر والريبة، من رجال القضاء، هي السائدة بعد عودة الملكية.

مجلس الدولة يتناسى أصل نشأته

وما لبث مجلس الدولة الفرنسي، بعد أن اشتد عوده ورسخ في ضمير ووجدان الشعب الفرنسي، أن تناسى أصل نشأته وتحول عن قضائه السابق في أعمال السيادة، ليضيّق من نطاق هذه الأعمال، لتوسيع وتأكيد رقابته على كل أعمال السلطة التنفيذية.

تحول في القضاء لحماية المشروعية

ويعتبر هذا التحول في قضاء مجلس الدولة الفرنسي، تحولا في اتجاه حماية الحريات العامة، لضمان مشروعية تدخل الدولة في تنظيمها، وتأكيداً لأمرين:

الأمر الأول: أن النص في الدساتير على الحريات وعلى حقوق الأفراد، لا يعني- كأصل عام- أنها حقوق مطلقة تتأبى على أي تنظيم، فليست هناك حقوق مطلقة في دساتيرنا، إلا ما يتعلق بحرية العقيدة وحدها التي تعتبر حقا مطلقا للفرد، فأمرها إلى الله- حسبما جاء في المذكرة التفسيرية للدستور- ولو كان الشخص لا يعتقد بدين ما، فإن جاوز الأمر نطاق، السرائر وظهر إلى العلن في صورة إقامة الشعائر، وجب أن تكون هذه الشعائر طبقا للعادات المرعية، وبشرط ألا تخل بالنظام العام أو تنافي الآداب، وقد جسدت ذلك المادة (35) من الدستور الكويتي عندما نصت على أن «حرية الاعتقاد مطلقة».

أما بقية الحريات من حريات سياسية واجتماعية واقتصادية وحرية شخصية، فهي جميعا تقبل التنظيم، وتمارس عليها السلطة التنفيذية رقابتها لضمان التزامها حدود التنظيم التشريعي لها.

الأمر الثاني: أن الحريات وإن كانت مقصداً من مقاصد النظام الديمقراطي، وهي الركيزة الأساسية لهذا النظام، وهي مقصد الأفراد كذلك، فإنه يقابلها في الجانب الآخر مقصد الدولة في فرض النظام والأمن في البلاد، فإن خرج الأفراد عن حدود التنظيم التشريعي الذي سنّته السلطة التشريعية وحدها، لأي حرية من هذه الحريات، فمن حق السلطة التنفيذية التي وضع المشرع هذه الحريات في يدها أن توقف بالأدوات القانونية التجاوز في استخدام هذه الحرية، فإن جاوزت هذه السلطة حدودها التي رسمها لها القانون وبغت على حرية من الحريات فإن القضاء هو الضامن الأخير لحماية الحريات والملاذ الأمين لها.

حرية التجارة لا تتأبى على التنظيم

ولا تخرج حرية التجارة، عن هذا السياق، فهي إحدى الحريات الاقتصادية، التي يمارسها الأفراد في المجتمعات المختلفة، ويتراوح تدخل الدولة فيها ضيقا واتساعا بحسب فلسفة النظام الاقتصادي في المجتمع، فقد كانت الفكرة السائدة في القرن الثامن عشر، أن تدخّل الدولة في تنظيم هذه الحرية يجب أن يكون في أضيق الحدود، وبالقدر الضروري فقط لمنع الإضرار بحريات الآخرين، غير أنه تحت تأثير الفكر الاشتراكي ومبدأ التدخّل، صارت لحرية التجارة وظيفة اجتماعية تهدف إلى تحقيق مصلحة الجماعة، وهو ما تأثر به دستور دولة الكويت، عندما نص في المادة (16) على «أن الملكية ورأس المال والعمل مقومات أساسية لكيان الدولة الاجتماعي وللثروة الوطنية، وهي جميعا حقوق فردية ذات وظيفة اجتماعية ينظمها القانون».

وهو ما اتجه إليه مجلس الدولة المصري، عندما أصدرت محكمة القضاء الإداري برئاسة المرحوم د. عبدالرزاق السنهوري، في عام 1952 حكمها الذي قضى بأن بورصة القطن في الإسكندرية، أنشئت لتأمين مراكز التجارة وتحديد سعر القطن، على أساس المنافسة الحرة القائمة في العرض والطلب الخاليين من عوامل الاصطناع، وفي تحقيق هذا الغرض وضعت البورصة نظما ولوائح تسير على مقتضاها المضاربات العادية، فكل انحراف أو خروج على هذه النظم يعد خروجا على القانون يهدد المصلحة الخاصة والمصلحة العامة على السواء.

وكانت محكمة القضاء الإدراي قد قضت في حكم سابق لها صدر في 18-4-1950 في مجال حرية التجارة عندما دفعت الحكومة بأن التشريعات الخاصة بالتصدير والاستيراد وتحديد الحصص أو البلاد التي يتم الاستيراد منها هي عمل من أعمال السيادة التي تخرج عن ولاية القاضي فرفضت المحكمة الدفع، وأسست قضاءها على أن أعمال السيادة لا تنصرف إلا إلى الأعمال التي تتصل بالسياسة العليا للدولة والإجراءات التي تتخذها الحكومة حيالها بما لها من السلطة العليا للمحافظة على سيادة الدولة وكيانها في الداخل والخارج، ولا يعتبر من هذا القبيل ما تصدره الحكومة من قرارات تنفيذاً للقوانين واللوائح، إذ إن مثل هذه القرارات تندرج في دائرة الأعمال العادية للحكومة التي تخضع لرقابة القضاء.

وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.