قبل أيام، أُعيد النقاش حول أبو العبد البيروتي، تلك الشخصية التي بات يحسبها المرء وهماً صنعه الوعي الاجتماعي، والتي اشتهرت بحسب العارفين بالتراث البيروتي قبل مجيء الممثل أحمد خليفة الذي جسدها في مسلسلات ومسرحيات رحبانية. أبو العبد البيروتي ليس أحمد خليفة فحسب، بل هو «كاركتر» أدت دوره مجموعة من الممثلين من بينهم الفنان الكوميدي محمد شبارو، ويقول بعض النقاد إن الأخير شكل عقدة بالنسبة إلى خليفة، إذ لجأ إلى تسجيل شخصية أبو العبد في وزارة الاقتصاد باسمه بدعم من المخرج وسيم طبارة، وكأن هذه الشخصية «سلعة» أو ابتكار، وأكثر من ذلك فهو أدى دورها على نحو سلبي شوّه بنيتها من خلال مسرح «الشانسونييه»، أي استقى من الأسطورة الجانب «الزقاقي».جسد الشخصية أيضاً الممثل فادي أبي سمرا مع الرحابنة، وعادل كرم الذي يؤدي دور أبو رياض على شاشة {المستقبل} وهو في شكل من الأشكال امتداد لأبو العبد، لكن يبقى خليفة أبرز من جسّد أبو العبد، والطامة الكبرى أنه لا يتوافر بحث حقيقي عن جذور الشخصية إلى الآن، ويقوم الباحث الألسني اللبناني نادر سراج بمحاولة للتنقيب الاجتماعي عنها. عُقدت في هذا المجال ندوة في بيروت بعنوان «تراث بيروت في الحفظ والصون» ركّزت في جانب منها على صورة «أبو عبد» البيروتي وشخصيات أخرى «حاضرة في الوجدان الشعبي البيروتي حتى اللحظة»، كالقبضاي والزّمك والجدع وغيرهم.تحوير بعض ما قامت عليه الشخصيّات من مفاهيم وصور، سببه الإعلام خصوصاً، فشخصية أبو العبد الحقيقية نجد مرجعيتها في نظام الفتوة المتوارث داخل حارات المدن العربية. ونعني بالفتوة المروءة وغلبة العقل للشهوة، وتجنّب الرذائل، وهي شخصية مدينيّة بامتياز، دورها داخل الحارات كما المختار في القرى (أو العكيد في مسلسل «باب الحارة»)، وتاريخها يعود إلى صورة عنترة «أبو الفوارس» الأسطوريّة.تقريرعُرض في إطار الندوة تقرير عن «أبو العبد» بعنوان {بطولة الأسطورة} أعدّه الصحافيان ميموزا العراوي وشادي علاء الدين وأخرجه روي بدران، ويبدأ بمشهد حرائق الانفجارات والتظاهرات اللبنانية، ويعرض آراء بضعة أشخاص عرفوا أحمد خليفة الذي توفي منذ بضعة أسابيع. كذلك يعرض مشاهد من أفلام ومسرحيات أدّى فيها خليفة دور «أبو العبد» البيروتي. يقدم التقرير وإن كان قصيراً العناوين العريضة لشخصية أحمد خيلفة على لسان حفيده أو على لسان بعض اصدقائه ورفاقة في اطفائية بيروت. بين سطور تصريحات المتحدثين في التقرير إشارة إلى أن خليفة كان يعيش في أسطورة أبو العبد، ويمثّل الشخصيّة الخياليّة في الواقع، وهذا تماماً الخيط الذي اعتمد عليه التقرير، إلى جانب رمزيّة الحرائق، فأبو العبد كان رجل إطفاء قبل أن يصبح أسطورة أو ممثلاً، ويمكن لنا نسج فكرة لفيلم آخر عن هذه الشخصية، لكن يبدو أن عمل علاء الدين والعراوي أُنتج ليشكّل جزءاً من برنامج «كلمات متقاطعة» فحسب، وهنا تحتاج القضية نقاشاً آخر. كان باستطاعة «إخبارية المستقبل» إنتاج فيلم ضخم عن شخصية أبو العبد، طالما أنها تلجأ أحياناً الى إنتاج أفلام عن الذاكرة والمكان.ليس هدف التقرير كتابة قصة عن بيروت، لكن في طيّاته ملمح عن المدينة... مدينة اتسع قلبها للجميع، فصارت أسطورة في هوياتها.وليست المشكلة في أن التقرير عرض صور الحريري أو تظاهرات الفريقين السياسيين في لبنان، 14 و8 آذار، فهذه الحيثيات جزء من واقع المدينة، لكن المشلكة في مسارعة النقاد السذّج إلى أدلجتها مباشرة بعد عرضها على شاشة «المستقبل» وتصنيفها في خانة السياسة والتعبئة والترويج لطرف محدد، على رغم أن أبو العبد (أحمد خليفة) كان غائباً في السنوات الأخيرة، وكثيرون تعرّفوا إليه من خلال بعض لقاءاته بالرئيس رفيق الحريري، أما أبو العبد الآخر «الشعبوي» التي ننسج حوله النكات فهو شأن آخر ويحتاج دراسات أخرى ولا تُقتصر حكاياته بمقال أو بحديث، ربما علينا أن نسأل في هذا المجال عن أبو العبد قبل السؤال عن أحمد خليفة!كان خليفة نقيب الإطفائيين في بيروت، عمل كرجل إطفاء في شبابه، وأدّى أدواراً عدة جاء أبرزها في مسلسلي «المعلمة والأستاذ» و{الضحية»، وكانت له أدوار في أفلام سينمائية من بينها «سفر برلك» للأخوين رحباني... عاش كأنه شخصية في فيلم أو في مسلسل، يلبس عباءة مقلّمة وطربوشاً أحمر ويحمل خيزرانة ويهوى المقاهي البيروتية والنرجيلة.أما أبو العبد الذي نتبادل نكاته فغير موجود إلا في المخيّلة، إنه جزء من نسيج الذاكرة الاجتماعية التي تعود الى الزمن العثماني وتمر بالانتداب الفرنسي، ولا تنتهي عند أبو رياض وزميله عباس. والمفارقة أن معظم من يكتبون عنه لا يتذكر شخصية أبو صطيف، الذي يغدر بشقيقه غالباً في النكات، فهما كما «توم وجيري» في أفلام الكرتون.كتبنا سابقاً عن صراع الأدوار بين هيفا وهبي وأبو العبد، هيفا تلك النجمة الحقيقية التي صارت فجأة محور النكات، وأبو العبد الوهم الذي يرمز الى ذاكرة ما (ربما تكون متهالكة). فقد عُرف عنه رجولته التي تحولت في النكات إلى «رجولة منتهكة» وأضحوكة لا جدوى من صاحبها، ولا من «قبضنته» وقوة عضلاته على العكس من شخصيته التي نعرفها في الواقع. والسؤال، لماذا انقلبت شخصية أبو العبد على هذا النحو، من يبحث عن أصل الانقلاب؟أطاحت أنوثة هيفا خلال السنوات الماضية بـ{رجولة» أبو العبد قبل أن تعود الى عالم الصورة والكليبات، وبقي أبو العبد مرتبطاً بالذاكرة البيروتية واللبنانية، ويحتاج من يؤرّخ شخصيته ويكتب نكاته.
توابل - ثقافات
أحمد خليفة... عاش في أسطورة أبو العبد
30-03-2009