إذا كانت حركة «حماس» قد اكتسبت شرعية، أو «عززت شرعيتها» على ما صرح أحد قادتها في الآونة الأخيرة بقدر من تباهٍ ومن افتخار، وقد وجدت الحركة في المواجهة الجارية، عدوانا غاشما، بينها وبين الدولة العبرية، ما لا قِبل ربما لصناديق الاقتراع بتمكينها منه، على صعيد الشرعية ذاك، فإنه سيكون من مغبات انتصار تلك الحركة، وهو انتصار يفي به مجرد قدرتها على الصمود وعلى البقاء، أن يقيم فارقا كؤودا، بين مناط شرعية القضية الفلسطينية وقد آلت، في هذه الحالة إلى «حماس»، وبين «قانونية» تلك القضية التي لاتزال السلطة الوطنية الفلسطينية مناطها.

Ad

غني عن القول إن نيل الوظيفة الأولى أيسر بما لا يقاس من الظفر بالثانية، إذ لا يكلف الطامح إلى الاضطلاع بتمثيل الشرعية والاستحواذ عليها، سوى رفع العقيرة بشعارات المقاومة أو المبادرة بها فعلا، تُمكن صاحبها من صدى «جماهيري» آني وتفضي إلى تعليق العمل بكل مرتبة مسؤولية سواها، إن تجاوزا وإن إبطالا. والأمر ذاك في ربوعنا بديهي معلوم، خصوصا إن تعلق الأمر بمجابهة «الكيان الصهيوني»، العدو الأقصى والأمثل، وبرمزية كتلك الأرفع تحوز عليها القضية الفلسطينية. ولعل ذلك ما يضفي على مواجهات الشرق الأوسط لبسا أساسيا، حيث كل صدام مع إسرائيل صدامان أو أكثر، ذلك الجاري كفاحا أو جهادا ضد الصهيونية، وذلك الرامي، من وراء ذلك ومن خلاله، إلى بلوغ غلبة أو أرجحية داخليتين، إن على الصعيد «الوطني» وإن على ذلك «القومي».

قصارى القول إن «حماس»، إن خرجت من هذه المواجهة منتصرة، وفق مقاييس الانتصار السارية في ما يخص الحركات من قبيلها، أي إبداء قدرة على الصمود وتوجيه الضربات، وإن غير متكافئة، وتاليا على البقاء تنظيما وإمكانات قتالية، على منوال ما حصل، مثلا، مع «حزب الله» اللبناني، في موفى حرب سنة 2006، فإن من شأن ذلك «الانتصار» أن «يعزز»، حسب قول المسؤول الحمساوي الآنف الذكر، شرعية لن تتحقق إلا على حساب الأطراف المحلّية، وعلى حساب السلطة الوطنية الفلسطينية.

وإذا ما قيّض للأمور أن تسير في هذا المنحى، فقد تفضي إلى فصل مجال شرعية القضية الفلسطينية، أقله وفق المقاييس السارية لدينا، بين غالبية نخبنا وجماهيرنا، وبين مضمار «قانونيتها». أما عن مجال الشرعية، فهو ذلك الذي سبقت الإشارة إليه، وأما عن مضمار «القانونية»، أقله بحسب المعايير الدولية، فهو ذلك الذي تتولاه السلطة الوطنية، ممثلة (إلى حين؟) برئيسها محمود عباس، تلك التي نشأت بقرار دولي وبمقتضى اتفاقيات رعى العالم إبرامها وشهد عليها، وضمن منظور تمثل «التسوية» غايته المنشودة، بحيث يستوي خيار التفاوض مسعى واعيا لإنفاذ القرارات الدولية، واستقواء بها، من أجل إحقاق بعض الحق الفلسطيني، كما يقره العالم: دولة فلسطينية إلى جانب تلك الإسرائيلية.

لسنا هنا في مجال النظر في مدى جدوى وفاعلية تلك المقاربة من عدمهما، ولكنها المقاربة التي ارتضاها وتوخاها الفلسطينيون والوطنية الفلسطينية، منذ أمد بعيد، يعود في أوضح تجلياته إلى أوسلو وإلى افتقاتها، وذلك منذ عهد الزعيم ياسر عرفات، بحيث يلوح أن الوطنية الفلسطينية، ممثلة في القيادة العرفاتية، ما حازت على شرعية تمثيل القضية إلا من أجل تمكينها من ذلك الوجود القانوني الذي كانت ولاتزال تعي بأنه أقصى المتاح، على كل علاته وعلى ضآلة نتائجه.

والحال أن حركة «حماس» تبدو معيدة النظر في كل ذلك مرتدّة على تاريخ الوطنية الفلسطينية، مقاربة وإنجازات، بغض الطرف عن رأينا في هذه الأخيرة، تنبذ المؤسسات وعلى رأسها منظمة التحرير، والاتفاقات الدولية المبرمة، وتريد العودة إلى اجتراح «شرعية» تنطق بها وتتولاها باسم القضية الفلسطينية، تتنكر لما تحقق وتم التوصل إليه على صعيد «قانونية» القضية الفلسطينية.

وما زاد الطين بلة، عدا عن فظاعة الجرم الإسرائيلي وهذا مدان أشد الإدانة، ومعتاد من لدن الدولة العبرية لا يشي بجديد جوهري منذ لحظة الاغتصاب، أن الاستقطاب ذاك بين «الشرعية» و»القانون»، ليس مجرد استقطاب فلسطيني داخلي، يتجسد حربا أهلية مباشرة أحيانا وبالواسطة أحيانا أخرى، بل هو جزء من استقطاب إقليمي أوسع، بين «كيانية»، ترمز إليها مصر على النحو الأجلى، تسبّق، في هذا الطور، «قانونية» القضية الفلسطينية، وتسعى إلى حل لها في إطار الشرعية الدولية، ما يدرجها طبيعة في صف السلطة الوطنية، وبين «ثورية» (في انتظار توصيف أكثر دقة وتوفيقا) تسبق «الشرعية»، تزعم إيران وحلفاؤها رفع لوائها، على ما دل التحرك الأخير لسعيد جليلي، أمين عام مجلس الأمن القومي الإيراني، الذي جعل من تلافي المبادرة العربية أحد المحاور الأساسية لمساعيه لاجتراح تحالف يعيد طرح القضية الفلسطينية، على صعيد التداول الدولي، على نحو مستجدّ.

وبذلك قد يكون الصراع الإقليمي، ناهيك بذلك العالمي، على فلسطين، قد بلغ، في غزة ومن خلالها، أكثر مراحله حرجا.

* كاتب تونسي