حينما كان الطائر الصحراوي يواصل تسكّعاته في شوارع المدينة التي ابحها من القلب بعيدا عن «المغانم» التافهة التي تشغل بال «أغلب» سكانها والوافدين اليها، لانه كان يؤمن بالتواشج الروحي بين المكان والانسان، اذ لا يمكنه انتزاع المكان بكل ما فيه من الذكريات من روح الانسان.

Ad

ولأن هذا الكائن الصحراوي هو انسان اولا وقبل ان يغدو طائرا، فانه يفكر باحساس الطيور وتعلقها باوكارها الاولى، لذلك فقد واصل الهجس وهو يدور في شوارع الكويت، هكذا:

***

أبحث في شوارع الكويت

تلك التي احببتها في ميعة الصبا / عن الحواري القديمة

عن «الدريشة» التي تطل من «درفتها» صبية جميلة

كان اسمها «غنيمة»

القي لها رسائل الغرام / اذ الفها على حجر.

«احذفها» / تلقفها / وانتظر

تأكلني الشكوك والاوهام والضجر

وعندما يجيئني الحجر

مضمخا بالعطر والرسالة الملونة / وقطرات الزعفران / وبصمة الشفتين بـ«الديرم» الخنين

والسهم والقلبين / احس انني من اسعد البشر

واكتب الاشعار / عن روعة الهوى / ولوعة الجوى / والحرقة الاليمة، و«سرّي الدفين»

فأشتم الحساد / وألعن «الحُقّاد» / وناقلي النميمة / والكاذب الأشر

أبحث في الشوارع الخلفية / عن أول الندامى / عن منزل من طين

يسكنه اربعة من المدرسين / فواحد من الزبير جاء

وواحد من حمص وواحد من القصيم / وواحد قد جاء من جنين

وكانوا ياما... وياما / غنوا قبيل الفجر / الاوف / والموال / والمقاما

ويتقنون العزف / بالعود والمرواس / ويزرعون الفل والنعناع

ويكتبون الشعر ليُحسنوا المقاما

ولطالما قد رددوا أغنية تقول:

يا نجمة الصبح يللي / سروا عليك النشاما

أبكي ولا احدن فطن لي / وانوح نوح الحماما

***

أدور في الكويت / تلك التي اعرفها / منطقة، منطقة / وقطعة وقصعة

وشارعا / وبيت.

لكنها تغيرت / ولم يعد بها / سوى تسابق الابراج للسماء

مثل الخوازيق التي انتصبت / لتطعن الزمان

والانسان / والفضاء / وتلغي المكان

حدقت في علوها / فهاجت الاشجان

أدرت وجهي المحزون صوب البحر / لكي اجاوب الامواج في النشيج

وفجأة: بكيت

لانه لم يبقَ في الكويت

تلك التي اعرفها / سوى النوارس التي تصيح / ومركبا محطما

تلهو به الرياح / تنسل من الواحة / «نهمات» أهل البحر / تاركة في مسمع الزمان:

صوتا / ...وصيت.

***

عند ذلك بالضبط تذكر الطائر الصحراوي الغريب انه طائر لا انسان فذرف دمعتين، ثم فرد جناحيه بقوة فتمزق الثوب الذي كان يرتديه وطوح بـ«الغترة»، بعيدا نحو ازباد البحر، ونفض ريشه المعدني الصلب من جديد وصفق بجناحيه الهائلين واطلق صرخته المدوية وانطلق كالسهم ليخترق الاجواء عائدا الى صحراواته القديمة وواحاتها الوارفة، تاركا ابراج المدينة الهائلة تبدو له من الاعالي كحزمة بعيدة من الأشواك المنتصبة في العراء.