مثلت الزيارة الأخيرة لرئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان إلى روسيا ومباحثاته مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين نقلة نوعية في العلاقات التركية-الروسية، ومرد ذلك أن الزيارة تناولت الترتيبات الأمنية التي ترغب تركيا في إبرامها على خلفية النزاع المحتدم بين موسكو وواشنطن في منطقة الأوراسيا. لم ترحب موسكو فقط برئيس الوزراء التركي وفقاً للأعراف الدبلوماسية المعتادة في مثل هذه الحالات، بل إنها عرضت عرضاً غير مسبوق على تركيا حليف أميركا الاستراتيجي: توريد أنظمة الدفاع الجوي الروسية الاستراتيجية من طراز «إس- 400»، لأنها تعلم أن تركيا ترغب في الحصول على أنظمة جديدة للدفاع الجوي الاستراتيجي بدلا من أنظمة هوك وهيراكليوس المتهالكة التي تمتلكها منذ عقود. وتنبع أهمية العرض من كون الأنظمة الصاروخية المشار إليها لم تخرج حتى الآن خارج حدود روسيا، إذ تستعمل كحزام حدماية أساسي للمدن الروسية ضد الصواريخ البالستية، وهو ما يعني أن روسيا تقدم عرضاً غير مسبوق إلى تركيا. ترتكز السياسة الخارجية للدول على رؤية استراتيجية مؤسسة لدور الدولة في محيطها الجغرافي، وتعيين نسق تحالفاتها الإقليمية والدولية الذي يضمن لها أكبر قدر من تحقيق مصالحها الوطنية. وبتطبيق هذه القاعدة النظرية على تركيا يمكننا التعرف على الرؤية المؤسسة لدور تركيا في محيطها الإقليمي وهي فكرة «العمق الاستراتيجي» التي صاغها في كتاب يحمل نفس الاسم، مفكر تركيا الاستراتيجي أحمد داود أوغلو الذي أصبح منذ أسابيع وزير خارجية تركيا. يقول مقتضى الفكرة المؤسسة بأن الابتعاد النسبي عن المحاور والمقترن باقتراب محسوب من قضايا الجوار وتنويع التحالفات الإقليمية والدولية سيمكن تركيا من استخدام أمثل لعمقها الاستراتيجي في التأثير على الفاعلين الإقليميين والدوليين. بمعنى أن رسم السياسة الخارجية لتركيا وفقاً لنظرية «العمق الاستراتيجي» يعني أنها ليست في وارد التملص من تحالفها الدولي مع أميركا والذي جعلها ضمن رابحي الحرب الباردة، ولكنها تتوخى الاقتراب المحسوب من الأقطاب الدولية الأخرى ومنهم روسيا لكي تستطيع أن تجدد دورها.تبدو رغبة تركيا في تحديث أنظمة دفاعها الصاروخي معلومة في ضوء تصاعد أدوارها الإقليمية، كما تظهر رغبتها في الحصول على ضمانات أمنية من الطرفين الأميركي والروسي منطقية ومفهومة. ولا تريد تركيا الانزلاق إلى وضعية بولندا التي وجدت نفسها عالقة بين العملاقين الروسي والأميركي؛ وبسبب غياب رؤيتها الاستراتيجية لدورها واستكانتها في الأحضان الأميركية، فقد فقدت بالنهاية هامش مناورتها السياسية. تطرح التكنولوجيا الحديثة نفسها على تركيا لتحديث أنظمتها الدفاعية، حيث يتربع نظامان على قمة تكنولوجيا الدفاع الجوي حاليا: صواريخ باتريوت الأميركية في أحدث تعديلاتها التقنية والتي يطلق عليها باتريوت «بي إيه سي- 3»، أو أنظمة الدفاع الجوي الروسية «إس- 400» التي يطلق عليها تريومف. تبدو المفاضلة بينهما صعبة للغاية من النواحي السياسية، لأن الصراع بين النظامين الصاروخيين يجسد المفاضلة بين خيارين سياسيين قبل أن يلخص مقارنة تقنية صرفة للإمكانات والقدرات. ويزيد من وطأة المقارنة التقنية-السياسية أن روسيا مورد الصواريخ «إس- 400» لا تملك علاقات تحالفية مع تركيا، وهو ما يجعل مهمة توريد قطع الغيار وتحديث الأنظمة وأجهزة التوجيه محلاً لمفاوضات مستمرة عند كل منعطف، وفوق كل ذلك لم يتم تجربة الصواريخ «إس- 400» في مناطق نزاعات من قبل، وبالتالي يصعب الحكم على نجاعتها قبل الشراء، وإن كانت القدرة الفائقة لهذه الصواريخ– كما تقول المجلات العسكرية المتخصصة- من بين الأفضل في العالم، إلا أن توسيع الإنتاج الروسي من هذه البطاريات لتزويد تركيا بها والفترة الزمنية اللازمة لهكذا توريد تبقى مجهولة حتى الآن.يقود تقليب النظر في الدوافع الروسية إلى استنتاج أن موسكو لا تريد فعلاً توريد هذه الأنظمة المتقدمة إلى تركيا، لأسباب مختلفة أهمها الخشية على الأسرار التكنولوجية العسكرية من التسرب إلى الغرب. ويتأسس الاستنتاج على العلاقة الجدلية التالية: كلما عرف البنتاغون إمكانات الصواريخ أكثر، عرف مواطن الضعف وعيوب النظام الصاروخي، وكان قادرا على تكبيده خسائر في أي مواجهة مقبلة. ويعني ذلك أنه في حال أرادت موسكو المضي قدماً في إتمام الصفقة جدياً، سيتوجب على تركيا أن تضمن أمن التكنولوجيا الروسية وتوافق على إرسال موسكو لخبراء تشغيل روس مع البطاريات، وهو أمر من المستبعد أن تقبل به تركيا العضو في الناتو.يقول المنطق التقني إن العرض الروسي وبالرغم من جاذبيته الاستثنائية يواجه مصاعب جدية للتنفيذ، وبالتالي فالنتيجة المنطقية تقود إلى طريق إجباري مؤداه أن موسكو لا تريد في الواقع أن تمتد شبكة الصواريخ الباليستية التي تزمع واشنطن نشرها في بولندا وتشيكيا إلى تركيا، وبالتالي فهي تستخدم عرض توريد الصواريخ المتطورة من طراز «إس- 400» للتأثير على اختيارات تركيا الاستراتيجية وليس لتوريده فعلاً. ولكن أنقرة ستستفيد مع ذلك من مجرد انطلاق المباحثات التركية-الروسية حول الصواريخ «إس- 400» لأنها سترسخ صورة تركيا التي تريدها لنفسها، أي الدولة المستقلة عن الأحلاف والدولة الإقليمية الصاعدة التي تحتفظ بمسافة عن كل الأطراف. لذلك ستستمر المفاوضات حول الصواريخ «إس- 400» قائمة بين موسكو وأنقره لفترة من الزمن، بالرغم من أن نجاح الصفقة يبقى أمراً مستبعداً. يستمر الصراع الأميركي-الروسي على تركيا وعمقها الاستراتيجي بوسائل متجددة آخرها أنظمة الدفاع الجوي المتطورة، ومع ذلك تبقى أهمية العرض الروسي نابعة من الخلفية التي يتأسس عليها وليس من إمكانات تحققه الفعلية. من ناحيتها تُعدل تركيا أولاً بأول عبر تطبيق سياسات «العمق الاستراتيجي» من شروط التحالف مع واشنطن، وتقدم درساً بليغاً مفاده أن التحالف الدولي مع الولايات المتحدة الأميركية لا يمنع من تعديل شروط هذا التحالف بما يحفظ مصالحها الوطنية. احتدام الصراع على تركيا وعمقها الاستراتيجي يجسد في حد ذاته القيمة الكبرى لتركيا في السياسة الدولية! * مدير مركز الشرق للدراسات الإقليمية والاستراتيجية - القاهرة كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء
مقالات
الصراع على تركيا وعمقها الاستراتيجي
21-05-2009