غداً يكون قد مر على إقرار دستور البلاد ستة وأربعون عاماً، ولم يأت الدستور من فراغ فهو محصلة لتراكمات سياسية في تطور المشاركة الشعبية وصياغة راقية لمبادئ وأسس النظام العام في البلاد... وتلك الوثيقة التي أقرت في الحادي عشر من نوفمبر عام 1962 عمرها أكبر بكثير، ومحاولات صياغتها ترجمت في محاولات سابقة (تجربة 1921-1937) لم يكن قد ولد النفط فيها بعد... وكان العسر أصلاً في توحيدنا مثلما أصبح اليسر لاحقاً طريقاً لتفريقنا.

Ad

وثيقة خطها رجالات وحكام في زمن القسوة وأورثوها أجيالاً نعمت برغد العيش وغطاء النعمة لتبقى نبراساً يهتدون به يدلهم ولا يظلهم، يهديهم إلى طريق الحق والعدل والمساواة كما يحميهم من شرور أنفسهم، وقد حماهم، في أحلك الظروف وأصعبها حتى من طمع الطامعين وظلم الجائرين.

***

خمسة عقود مرت منذ إقرار هذه الوثيقة الرائعة تقريباً... عُطِّل العمل والالتزام بها عقداً من الزمان، قبلها حاول رافضو الدستور العبث بإرادة الامة فزوَّروا الانتخابات، وحاولوا الالتفاف عليه بالتجنيس، ليتحكموا في صناديق الاقتراع، وتطورت أشكال التطاول عليه، مثلما جُسدت في أساليب التحايل عليه.

بعد نصف قرن تقريبا تلاقت مصالح وأطماع أعدائه وخصومه وصار مستهدفا منهم، يتلقى رماحهم وسهامهم، حتى راحوا يقرعون طبول القول بأنه ليس قرآناً ويجب أن يعدل... ومن قال إنه كذلك؟ ألم يحدد الدستور نفسه أن تعديله يجب أن يكون نحو «مزيد من ضمانات الحريات»؟ ووفق آليات محددة وواضحة لايمكن تجاوزها أو الالتفاف عليها.

بعد هذه السنين تطورت أشكال وطرق العبث به محاوِلة الخروج منه... وكان آخر تلك الأشكال -وليس أخيرها- محاولات تفريغه من محتواه وتجاوز قيمه التي هي أسس النظام العام والتشريع باسمه لقوانين ونظم تناقض مبادئه تناقضا واضحا وصريحا.

***

لقد نجح بعض خصومه في أن يغرسوا بذرة بدأت تثمر لدى البعض... بذرة الكراهية له وتحميله مسؤولية ما آلت اليه أحوالنا من تردٍ وضياع... نجحوا في أن أقنعوا نفرا من الناس الطيبين بأن أخطاء مجلس الأمة وعبثه مسؤولية يتحملها الدستور وليس خطأ الناس في الاختيار وتلاقي مصالح أعدائه.

في المقابل، نجح المتمسكون به والمدافعون عنه في أن يبقوه خطاً أحمر ليس مصرحاً لأيٍّ كان تجاوزه وتعديه.

بعد نصف قرن صار فيه التشاؤم بديلاً عن التفاؤل وكثرت فيه الأقوال مثلما قلت الأفعال، وسادت مصالح البعض على حساب آمال المستقبل وغابت تلك «الضمائر الحية» التي تحمي هذا الدستور، كما قال المرحوم د. عثمان عبدالملك... فدستور بلا ضمائر تحمله وتحميه هو حبر على الورق.

ونبقى حائرين متسائلين عن مصير وثيقة العهد التي حمتنا فمن يحميها؟!

***

بقي أن ندرك حقيقة لا تقبل غض الطرف عنها، وهي أن الكويت والدستور وجهان لعملة واحدة، وهما أمانة يحملها الحكم وتتحملها الأمة.

الجريدة