أكتب إليكم الآن من حي مانهاتن الشهير في نيويورك بعدما وصلت قبل أسبوع إلى الولايات المتحدة الأميركية لارتباطات بحثية وعلمية مع عدة جامعات ومراكز بحث أميركية. مازالت البلاد هنا تعيش وهج انتصار الرئيس الرابع والأربعين باراك أوباما واستلامه مقاليد الحكم في البيت الأبيض، تسلم أوباما تركة ثقيلة من سلفه جورج دبليو بوش، إذ إنه يواجه مجموعة من التحديات الكبرى مرة واحدة مثل الأزمة المالية والمصرفية المستمرة، وعجز في الموازنة الفيدرالية بلغ حدوداً غير مسبوقة في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية فضلاً عن حربين تخوضهما بلاده حتى الساعة في العراق وأفغانستان، وليس آخراً خسارة الهيبة الأميركية حول العالم من جراء سياسات الرئيس السابق.ولا يعوض الهيبة المفتقدة انتشار العلم الأميركي على المنازل والمباني، كردة فعل على أحداث الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية، فعندما تتاح الفرصة تسأل الأميركيين عن شعورهم بعد انتخاب أوباما لتكتشف أن الأغلبية تعيش تفاؤلاً مشوبا بالحذر، خصوصاً بسبب التركة الثقيلة التي سيضطر أوباما إلى التعامل معها. ومع التفاؤل الذي يسود أميركا والعالم بعد انتخاب الرئيس أوباما، إلا أن هناك قضايا ستبقى محل إجماع من كل الرؤساء الأميركيين على اختلاف ميولهم ومشاربهم السياسية، ومن هذه القضايا التحديات والفرص التي تطرحها جغرافيا الولايات المتحدة الأميركية على الإدارات المتعاقبة وسياساتها الاستراتيجية. أصارحكم القول بأن النظر إلى المحيط الأطلسي ليس كمثله في العالم، إذ إنك تنتقل بالطائرة في ثلاث عشرة ساعة من الشرق الأوسط إلى نيويورك تقضي منها ساعات ست عابراً المحيط من أوروبا إلى الساحل الشرقي للولايات المتحدة الأميركية. لا أخفي عليكم أن التأمل في الأطلسي يبدو مختلفاً عن كل البحار والأنهار التي وقفت عندها من قبل، ومرد ذلك أنه عندما تحدق في الأطلسي تشعر وكأنك تجلس بالضبط عند نهاية العالم، حيث لاشيء أمامك سوى المياه. تبدو الخارطة الأميركية مثل شريحة أفقية كبيرة ممتدة من الشرق إلى الغرب، أي من المحيط الأطلسي إلى المحيط الباسيفيكي، ولكن أميركا نجحت- بثقلها الدولي الطاغي- في تبديل علاقتها الجغرافية بتوازنات سياسية مغايرة مع دول العالم المختلفة؛ بحيث أصبحت هي الجالسة في بداية العالم بين مياه المحيطين، في حين تجلس باقي دول العالم عند نهايته!حتى تستطيع عزيزي القارئ تخيل ما أحاول أن أشرحه لاحظ أن مساحة أميركا تبلغ حوالي9.83 مليون كيلومتر مربع، وهي رابع أكبر بلد في العالم من حيث المساحة بعد روسيا وكندا والصين، في حين يبلغ عدد سكانها حوالي 305 ملايين نسمة لتحتل بذلك المركز الثالث عالمياً من حيث عدد السكان بعد الصين والهند. بعيداً عن التصنيفات السياسية والأيديولوجية على أهميتها في التقييم يحتم الموقع الجغرافي على أميركا أن تكون قوة بحرية بكل ما لهذا المصطلح من معان وتبعات، ولهذا فقد ورثت أميركا زعامة القوى البحرية في العالم من إنكلترا في أعقاب الحرب العالمية الثانية. ويتمتع مواطنو الولايات المتحدة بسبب هويتها البحرية الصافية بفائض كبير من قيم الحرية والطموح الفردي غير المحدود، في حين تعتبر بلادهم أن المحيط الذي يفصلهم عن جغرافيا العالم الشرقي، أي العالم بدون كندا وأميركا اللاتينية، هي خط دفاعهم الأول. وبالفعل لم تجرؤ أي قوة في التاريخ الحديث على غزو الولايات المتحدة الأميركية بعد إعلان استقلالها، ولم يفكر الاتحاد السوفييتي السابق أو ألمانيا النازية- حتى مجرد التفكير- في غزو الأراضي الأميركية بسبب المحيط الأطلسي الذي يقف كحائط صد جغرافي للدفاع عن أميركا، ولكن في الوقت نفسه يعتبر المحيط عائقاً جغرافياً كبيراً أمام أميركا للتفاعل بجدية مع باقي العالم، ولذلك نجد واشنطن الساعية للهيمنة على العالم بقوتها العسكرية الكاسحة تتخذ لنفسها قواعد بحرية وعسكرية على امتداد اليابسة، كما أن أسطولها البحري الأكبر في العالم يمخر عباب كل البحار والمحيطات وبمسافة قوة هائلة تفصله عن باقي الأساطيل البحرية في العالم. تخرج من تأملاتك بانطباع مفاده أن المحيط الأطلسي هو الذي صنع عظمة أميركا في الواقع، وهو الذي يتحكم بأقدارها منذ استقلالها حتى قيام الساعة، إذ إن الجغرافيا هي قدر الأمم الذي لا فكاك منه. تنهض بعد أن احتسيت قهوتك أمام المحيط الأطلسي وقد امتلكت مفتاح المعرفة الجغرافية التي قدّت وشكلت هوية أميركا وتاريخها، كلمة السر إذن فيما بلغته أميركا من قوة جبارة هو التحدي الخرافي المسمى بالمحيط الأطلسي. حتى الآن كانت أميركا على مستوى التحدي فاكتسحت العالم سياسياً واقتصادياً وعسكرياً منذ الحرب العالمية الثانية حتى اللحظة، ونقلت معارك سيطرتها على العالم إلى ما وراء المحيط، إلا أن تزحزح بؤرة القوة في النظام الدولي الراهن من جراء الصعود المتوقع لقوى دولية أخرى من شأنه أن يهدد هذا الاكتساح وتلك السيطرة وصولاً إلى مقاسمة واشنطن نفوذها العالمي في المدى المتوسط. ولكن هذه قصة أخرى نتناولها في مقال قادم إن شاء الله.* مدير مركز الشرق للدراسات الإقليمية والاستراتيجية - القاهرة
مقالات
أميركا: نظرة من فوق ضفاف المحيط الأطلسي
19-02-2009