في مساء 17 يناير 2009 أعلنت إسرائيل وقفاً لاطلاق النار من جانب واحد بعد ثلاثة أسابيع من هجمتها العسكرية الوحشية على قطاع غزة. فشلت المبادرة المصرية، حتى الآن على الأقل، في التوصل لاتفاق تهدئة بين حكومة إسرائيل و«حماس» يضمن انسحاب قوات الاحتلال من القطاع وفتحاً مستمراً ومنظماً للمعابر، كما لم يسفر النشاط الدبلوماسي الدولي والإقليمي عن نتائج ملموسة تلزم تل أبيب بتنفيذ قرار مجلس الأمن (1860) في ظل حماية الولايات المتحدة الكاملة لها.

دمرت إسرائيل غزة وقتلت ما يزيد على 1200 من الفلسطينيين وقضت على جزء كبير من إمكانات «حماس» العسكرية والتنظيمية، ولم توقف حربها إلا بعد أن حصلت على ضمانات أمريكية وأوروبية من خلال اتفاق استراتيجي وأمني غير مسبوق مع واشنطن لمنع دخول السلاح إلى غزة. الحقيقة إذن هي أن إسرائيل بدأت حربها على غزة وواصلتها متعنتة مع استخدام مفرط للقوة العسكرية وارتكاب لجرائم حرب ضد المدنيين، وأنهتها وبخسائر محدودة للغاية على نحو انفرادي دون التفات لرأي عام عالمي غاضب أو اهتمام بمواقف الدول العربية المعتدلة منها والممانعة.

Ad

علينا في العالم العربي، والمسؤولية الأكبر هنا تقع على عاتق أصحاب الكلمة من مفكرين وصحفيين وإعلاميين، أن نتدبر بعقلانية في هذه الحقيقة شديدة البؤس دون مبالغات إيديولوجية أو حماسيات خطابية تغيب جوهر العجز الفلسطيني والعربي في الحيلولة بين إسرائيل وتحقيق أهدافها من الحرب على غزة بحديث مرسل عن صمود المقاومة ودحرها العدوان وانتصارها بالاستمرار في إطلاق الصواريخ. ولا شك عندي في أن وراء عجزنا هذا عوامل ثلاثة كشفت عنها الأسابيع الماضية بجلاء بيِّن، وهي: غياب البوصلة الاستراتيجية عن الفعل الفلسطيني، وهيمنة الصراعات والتباينات العربية- العربية على المشهد الإقليمي، ووهن الجامعة العربية وانتفاء قدرتها على صياغة أجندة توافقية تحدد الخطوط الاستراتيجية للتعامل مع القضية الفلسطينية وغيرها من قضايا الصراع العربي- الإسرائيلي.

والحصيلة هي تصفية فعلية للقضية الفلسطينية نتابع تفاصيلها يومياً على شاشات الفضائيات وتهميش تام للدول العربية التي استحالت مجرد مفعول به في ظل ترتيبات أمنية دولية وإقليمية تتخطاها جميعاً وتحيلها إلى مقاعد المتفرجين، وإن تفاوتت حالة المتفرج النفسية بين قبول صامت وامتعاض صاخب يوحد بينهما غياب الفاعلية. فالولايات المتحدة الأميركية، وفي لحظة انتقال رئاسي بين إدارتين يندر بها الدخول في التزامات خارجية ذات طابع استراتيجي، لا تجد أي غضاضة في التعهد بتعاون واسع النطاق مع إسرائيل لمنع دخول السلاح إلى غزة من خلال مراقبة حدود القطاع البرية والبحرية دونما إشارة إلى الدولة العربية حليفة واشنطن والمتاخمة للقطاع، وكأن موقف القاهرة وبغض النظر عن كنهه لا يعني الطرفين الأميركي والإسرائيلي من قريب أو بعيد، فالترتيبات الجديدة ستطبق إن طوعاً أو قسراً. ثم تعلن حكومات بريطانيا وفرنسا وألمانيا كامل استعدادها للمساعدة في مراقبة حدود غزة بإرسال بوارج حربية إلى ساحلها وتقديم أجهزة تقنية حديثة للسيطرة على الحدود البرية، و لمَّ لا؟ وشهية الأوروبيين على الوجود العسكري في الشرق الأوسط في تصاعد منذ انتهاء حرب إسرائيل على لبنان يونيو 2006 وفي ظل عجز المعتدلين والممانعين على حد سواء في فرض التعامل بجدية مع مصالحهم أو ممارسة رفض حقيقي ومعوق للخطط الأميركية والأوروبية.

وبين هذا وذاك يحتفي الفلسطينيون بخلافاتهم ويكرسونها بخطابات تخوين بغيضة بين رام الله وغزة، وبين رام الله ودمشق وكأن وحشية إسرائيل ودماء المدنيين في غزة لا يكفيان لفرض لحظة صادقة للوحدة الوطنية والبحث عن البوصلة الاستراتيجية المفقودة. أما العرب فيستنفدون مخزون الوقت لديهم في مواجهات لفظية على فضائيات ضربتها حالة من الهستريا الجماعية وفي التنادي لقمم تشاورية استحالت إلى ملتقيات لإنتاج صنف رديء من الخطابة السياسية فارغة المضمون أو مؤتمرات لتمرير إرادة إسرائيل والغرب في معية قادة عرب لا حول لهم ولا قوة.

* كبير باحثين في مؤسسة «كارنيغي» للسلام الدولي