في الحلقات السابقة، تابعنا صورة النجم عمر الشريف الذي حاول أن يزينها بالسياسة، وكأنه تدخل في ما لا يعنيه ولاقى ما لا يرضيه من هجوم شائعات تناقلتها الصحف، كما تناقلت أخبار مجده الفني ومغامراته في بلاد الغرب سابقاً. توقفنا عند عودة فاتن حمامة إلى مصر بعد أن عالجت ضمدت جراحها منذ طلاقها من الشريف، محاولة ألا تتوقف عند الموضوع كثيراً، ففتحت صفحة بيضاء في حياتها رسمت فيها صورتها الجديدة كفنانة وإنسانة فتزوجت من طبيب شهير، وبدأت مع زوجها علاقة صداقة وتواصل مع الشريف.

كان الشريف يعرف أن وجوده في الغرب لم يكن مجانياً، وحدته كانت الثمن الذي دفعه، وكان الثمن غالياً جداً أرهق روحه التي لم تحتمل أن تظل بلا دفء الأصدقاء الحقيقيين وأنفاس الناس الطيبين الذين يحبون بلا غرض سوى الحب نفسه، الوحدة كانت تزعج ليله، لم ينجح في الاعتياد عليها أو أن يجعل منها صديقته، لم يستطع أن يعيش معها في إلفة، كانت الوحدة تزيد ناره كما تزيد مراره أيضاً الى درجة أن الحزن صار رفيقه ليل نهار...

Ad

خاف الشريف من ذلك الإحساس وقرر أن ينحاز الى شخصيته المفعمة بالحياة، وكان الانحياز للحياة على رغم تطرفه أفضل من الاستسلام لأحزان وورطات واقع لا تتسع خاناته إلا للأرقام، حتى لو كان الانحياز جاء لصالح حياة السهر، فهي البديل لحياة أخرى قاتمة لم يعد يعرف فيها «طعم البيوت» والحياة الحميمية وسط عائلة تحبه وتحيطه بحنانها. هجر برغبته العائلة والزوجة والوطن، ووالده ووالدته، عائلته الأخرى التي شاءت الظروف أن تختفي من حياته هي أيضاً عندما سافرت إلى إسبانيا لتقيم هناك، ذلك كله جعله يشعر أن الدنيا بلا طعم ولا لون، ولم يكن يطمئنه سوى اتصالاته الهاتفية اليومية بوالدته، أو أن ينتهز فرصة تصوير بعض الأفلام في دول أوروبية ويحصل على إجازة ليسافر إلى إسبانيا وتأنس روحه بها ويرتوي من حنان والدته ودفء عائلته.

لكن ذلك كله كان يبدو بمثابة الدواء المسكن لوحدة صارت تستفحل وتتوحش في حياة الشريف الخالية من الحب الحقيقي على الرغم من زحام المعجبين والأصدقاء والصديقات، فذلك كله كان مجرد ومضة ضوء تخفت بالتدريج، ليجد نفسه وحيداً مرة أخرى في غرفته، يخسر من حياته، فالحب الموقت الراهن يمضي والعمر كذلك يمضي، أما هو فيمضي مع وحدته ويختزن عذابه ومعاناته التي لا تتوقف، معاناة أثناء النوم واليقظة، بحسب وصفه، ترهقه وتجهد جهازه العصبي.

ماذا أفعل في حياتي؟ كان الشريف النجم الكبير يسأل نفسه يومياً، فهو يملك كل ما يتمناه:الشهرة والنجومية والحبيبات الجميلات، غير أن ثمة فراغاً عميقاً في داخله يتعذر ملؤه، لذلك حاول أن يحتمي بالصخب والسهر ولعب البريدج، فالبريدج كان بالنسبة إليه وسيلته للهروب من الوحدة وأيضاً ليتحسس وجوده الإنساني بعيداً عن عالم الشهرة والفن والأضواء، لأن الجميع في تلك اللعبة، كما يقول، يكونون سواسية لا فرق بين لاعب وآخر.

بدأ الشريف لعب البريدج في موقع تصوير أحد الأفلام وعمره 22 عاماً، لم يكن غريباً على لعبة الورق التي عشقها من والدته المحترفة فيها والتي كانت تلعب مع الملك فاروق وكان يعتبرها تميمة حظه ولا يمكن أن يلعب من دونها، فورث عنها تلك النزعة إلى المقامرة والتحدي وحب المخاطرة، وكبرت النزعة ولازمته في سنوات غربته ووحدته، فكان حين يشعر بالضيق يخرج فوراً باحثاً عن أفق أوسع يحرره من الضيق أو من القلق الذي كان ينتابه أمام المجهول، فيذهب إلى الكازينو ليحقق شعور التحدي بداخله، وكان على استعداد لأن يفعل أي شيء يخرجه من حالات الملل.

نجم يتنفّس شهرة

«كل إنسان هو هاوية، نُصاب بالدوار إذا نظرنا إليها...» جملة الألماني جورج بوشنر الشهيرة في مسرحيته «فويتزيك»، والتي تكاد تنطبق على علاقة الشريف بصحافة الإثارة التي لهثت وراءه وسعت ترسم له صورة النجم في ليل الكازينوهات، صورة أرضت غريزة التطفل وأشبعت لذة التشويه لدرجة الهوس، وهو إدمان آخر يتغذى على خصوصية البشر، ولا يقل خطورة عن إدمان لعب الورق الذي ألصقته بالشريف، وكانت الصحافة تصاب بالدوار وهي تحاول أن تتسلل إلى حياته فتجدها بئراً عميقة تخفق في الوصول إلى نهايتها فتكتفي بما ظهر على السطح، بالصورة الخارجية وهي عادة تكون براقة...

تقارير الصحف التي طاردته محاولة أن تقتنص له فضيحة أو حادثة مثيرة وكأنها تقتص من نجوميته، كتبت عنه أنه نجم يتنفس بالشهرة والمجد والمال، وزعمت أنه مدمن لعب ورق، لكن الأمر لم يصل إلى درجة الإدمان لدى الشريف، إنه حب الاستطلاع الطاغي الذي يحرك أعصابه بالقلق كلما كان وحيداً، وهو ما يؤكده الشريف، مشيراً إلى أنه لم يكن أبداً كذلك: «المسألة ببساطة أن حياة الفنادق التي كنت أعيش فيها كانت مملة والكازينوهات فيها مثيرة، لذلك كنت ألعب وأخسر نقودي كلها».

كان القمار، إذن، وسيلته للانتصار على وحدة حاولت أن تنال منه وتجعله مجرد حطام روح، اختاره الشريف منتصراً للحظات المتعة التي حولها عنوان حياته العريض: «فلسفتي في الحياة هي أن أعيش كل دقيقة بكل قوة كما لو كانت آخر دقيقة في حياتي، ولا أفكر في ما حدث قبلها ولا ما سيحدث بعدها، أفكر في ما أفعله في اللحظة، أما أسوأ شيء، فلا أعرفه، , لكنه فعلا أسوأ شيء، ومن أسوأ الأشياء التي يمكن أن تحدث هو أن تموت ويكون آخر شيء قمت به أو آخر ليلة قضيتها قبل الموت كئيبة ومملة».

لم يحسب الشريف حساب المستقبل، فذلك لا يشغله وإنما كل ما يهمه هو اللحظة الآنية التي يعيشها، كان يخاف من الحياة الكئيبة التي تخلو من مظاهر تدل على وجوده وحضوره كإنسان، والتي تحرمه من معتقداته الشغوفة بالحياة من دون تعاسة، القمار لم يكن مجرد اختيار، بل فرض محتم عليه بسبب ظروف عمله ونجوميته وشهرته ووحدته، وهو الشخص البارع في اختياراته وفي التعامل مع الظروف المفروضة عليه.

يقول الشريف: «القمار لماذا؟ أنا طوال الوقت كنت أعيش في فنادق وأحمل شنطاً واتنقل من بلد إلى بلد، فكل أفلامي كانت في بلدان مختلفة وكنت أذهب إليها وحدي، فحينما أصل إلى دولة ولا أعرف فيها أحداً فماذا أفعل؟ أين أتناول العشاء؟ كنت أذهب إلى الكازينو، المكان الذي تستطيع فيه أن تأكل وحدك من دون أن يستغرب منك أحد أما إذا ذهبت إلى مطعم ووجدوك تأكل وحدك سيقولون عنك مسكين لا يعرف أحداً يتعشى معه، ومن هنا وجدت في اللعب تسليتي الوحيدة لأنني «بازهق» سريعاً، لكن لو كان لدي أصدقاء أو شخص يعيش معي لكان الأمر اختلف، فالحياة في حد ذاتها مصدر سعادة، وبالتأكيد فإن القمار كان لا داعي له، كنت أذهب إلى الكازينوهات حينما أفتقد الأصدقاء ولا أجد أحداً بجواري يعيش معي، لا أحب القمار، لكنه يخرجني من وحدتي».

التحدي

يمثل القمار عادة بالنسبة الى لاعبيه حالة من تحدي قدرات الإنسان المحدودة، كما قال الطبيب النفسي الراحل د. عادل صادق في كتابه الشهير «أسرار في حياتك» الذي ورد فيه أنها حالة تحد لقدرة حواسه التي تقف عاجزة عند حد معين، فهو لا يستطيع أن يرى إلا وجهاً واحداً من العملة في وقت واحد،لا يستطيع أن يرى الوجه الآخر للورقة المقلوبة، وهو لا يستطيع أن يمد يده ببساطة ليعرف الوجه الآخر، فذلك الوجه المقلوب يشكل تحدياً له ولغيره، بالإضافة الى أن الإنسان يعيش في السياق الاجتماعي مع الناس، فهو يعيش أيضاً في سباق مع الناس لا بد من أن يثبت قدراته فيها كي يحظى بالتفوق، ولهذا فهو لا يملك إلا أن يخمن شيئاً وليخمن الآخرون شيئاً آخر، وتكون نشوته عارمة حين يصدق تخمينه ويفشل الآخرون.

كان البريدج بالنسبة الى الشريف يمثل تلك الحالة من التحدي التي وصفها د. عادل صادق، فهو كان يشعره ليس بالانتصار على الآخرين فحسب، بل على خوفه الداخلي من الوحدة ايضا، وحتى عندما كان يخسر كان يشعر بمتعة أخرى تحققها له أحاسيس القلق التي تدور داخله والتي كانت تتصاعد مع الخسارة أو الفشل حتى يأتي الانتصار ليزيل القلق... تماما كما المعادلات الرياضية الصعبة التي تستعصي على الحل بسهولة!

يتذكر الشريف: «منذ طفولتي كنت صاحب عقلية منطقية، أحببت الرياضيات لأن كل مسألة رياضية كانت لغزاً بالنسبة الي، لذلك أحببت لعب الورق والبريدج بالتحديد لأنه مثل الرياضيات يحتاج عقلية منطقية، وخلال فترة اللعب يتعين على المرء حل سلسلة من الألغاز.

منحت طاولة البريدج إذن الشريف أحاسيس الفوز والخسارة, فذلك التناوب أو الانتقال من الهزيمة إلى النصر وما يصاحبه من إحساس بالنشوى هو ما كان يسعى إليه وهو دافعه الأساسي للعب, فعندما يكون الربح سهلاً جداً تكون الخسارة شبه مؤكدة، عندها تضعف كثيراً أحاسيس اللذة المرافقة للعب, والتي كانت تتضاعف عند حصول الفوز بعد مجهود كبير وخسارة متكررة، فقد كانت تلك الأحاسيس هي الجسر الذي يعبر من خلاله إلى ضفة السعادة وينسى موقتاً أية تعاسة يمر بها، لكن في الوقت ذاته لم يكن البريدج ولعب الورق بالنسبة إليه هدفاً للحصول على مكاسب مادية كما يفعل آخرون، يؤكد الشريف أنه لم يلعب البريدج كقمار طوال حياته، فما جذبه للعبه ليس المكسب والخسارة بل التحدي العقلي والذهني...

يؤكد الشريف أن عشقه ذلك كان جنونياً، كان يرفض الاتفاق على تصوير أي فيلم تتعارض مواعيده مع إحدى مسابقات البريدج، وأنه كان يحلم بأوراق اللعب وتدفعه الرغبة في المنافسة، ويعترف بأنه لاعب ماهر في البريدج، ويطمح الى الوصول إلى درجة الكمال، لكن البريدج مثل الغولف لا يمكن الوصول فيه الى درجة الكمال، خصوصًا مع وجود شركاء في اللعبة.

لم يحب الشريف من القمار غير لعبة البريدج، على رغم أنه لعب كل شيء يستطيع أن يراهن عليه حتى ولو كان الخيل، وفعلا وقع في غرام الخيل فجأة، فقرر أن يقامر عليه وبعدها أصبح مالكاً لإسطبل خيول كبير، وبعد أن حققت خيوله بعض المكاسب وسّع الإسطبل الخاص به، حتى أنه استثمر مبالغ طائلة من العملية، واستطاع أن يكسب في ثلاثة سباقات مهمة، ولم لا وهو الذي تعود أن يراهن وأن يكسب...

استحوذ القمار على حياته في تلك الفترة من حياته الفنية، وعلى رغم أنه كان يتعثر فنياً إلا أنه لم يتوقف وواصل مسيرته السينمائية، لكن اهتماماته في لعب البريدج والسكربل وتربية الخيول كانت تزيد وتتسع بحجم أكبر من طموحاته السينمائية.

يوضح الشريف: أمام البريدج كنت أتجاهل كل شيء، شكلت عام 1968 مع ثلاثة إيطاليين أول فريق لمحترفي البريدج، ومنحتني اللجنة العالمية للبريدج لقب «لاعب السنة»، عملت بعد ذلك ناقداً ومعلقاً على مباريات اللعبة وتمرست فيها وأتقنت فنونها في صحيفة «صانداي إكسبريس» البريطانية ومجلة «فيغارو» الفرنسية وكنت أحلم بتكوين فريق مصري للمشاركة في بطولات البريدج العالمية.

في اعترافات الشريف، لا ينكر أنه وقع في فخ الخسارة، حيث خسر أموالاً كثيرة، بل وخسر كل شيء من أسهمه ومدخراته، عندما انهار سوق الأوراق المالية الأميركية، ولأول مرة في حياته بدأ يواجه مشكلات مادية.

المؤكد أن الشريف جمع ثروة كبيرة في حياته هدرها بالكامل على طاولة القمار، صرف كثيراً من المال ولم يحسب حساب المستقبل بل كان يعيش حياته يوماً بيوم، ينهك نفسه أحياناً بكثرة الاهتمامات والأشغال، ما عرضه إلى أزمات في الصحة العامة وتشنّج في عضلات جسمه ورقبته وتكلّس المفاصل ووجع الظهر، بسبب الجلسات الطويلة على طاولة البريدج...

يعترف الشريف: «كسبت أموالا طائلة ولكني صرفتها، لأنني كنت أتصرف كنجوم السينما، الذين يبعثرون أموالهم بسهولة. كان لا بد من أن أغير أسلوب حياتي، وأتوقف نهائيا عن المقامرة».

استمر الشريف في تنقله من لندن إلى باريس إلى هوليوود وغيرها، حتى استقر به المقام في باريس في بداية الثمانينات، وأصبحت السينما بالنسبة إليه مجرد «أكل عيش» - كما يقول- كان لا يشارك في أي فيلم إلا إذا أحس بضائقة مالية، فهو يذكر بصراحة في إحدى مقابلاته الصحافية بأن عمله في السينما يرتبط بخسارته على موائد البريدج، حيث يقول: «عندما كنت أترك صالة ألعاب بعد أن أكون خسرت كل نقودي، كنت أتصل بمتعهدي كي يجد لي دوراً ما في أي فيلم».

انغمس الشريف في مباريات البريدج والسهر ومراهنات سبق الخيل، وانشغل عن تقديم الفن الحقيقي والجاد، فانحسر نجمه لفترة طويلة، غير أنه، في الوقت نفسه، كان يعاني من الوحدة، ويشعر دائماً بأن عليه أن يجتاز مرحلة حساسة من مراحل التحدي الشخصي، وضرورة إثبات الوجود، ذلك لأنه يريد أن يبرهن لنفسه وللسينما العالمية التي خذلته، أن بإمكانه النهوض من كبوته الفنية.

يقول الشريف: كان لا بد من أن أذاكر وأدرس جيداً.‏..‏ وأرجع الى الكاميرا والتصوير. كان لا بد من أن انتهي من لعبة البريدج التي كانت تأخذ جزءاً من عقلي.. في السنوات السابقة... عندما كنت أخسر نقودي، كنت أتصل بوكيل أعمالي لأقول له «اتفق لي على فيلم جديد غداً»، وهكذا كنت أفعل أمورا ساذجة لمجرد دفع نفقات الكازينو. أما الآن فالأمر مختلف، أحب عملي جداً والتمثيل أصبح الشيء الوحيد الذي أحبه.‏..‏ لذلك‏ قلت لا بد من أن أركز على التمثيل في الفترة الباقية من عمري‏.‏

توقف الشريف عن ممارسة لعبة البريدج التي كان يتمتع فيها بشهرة كبيرة على مستوى العالم, حيث خاض منافسات عالمية عدة وقال «لا أريد أن أنهي حياتي كعجوز يلعب البريدج».