رحلت المغنية الإفريقية مريام ماكيبي عن عالمنا بعد أن هزت بأغانيها ومرحلتها، عالما كان يعيش ألق الأغنية السياسية ومجدها، ففي منتصف الستينيات حتى أوائل الثمانينيات كانت الأغنية السياسية ثرية ومؤثرة وفاعلة في الشارع السياسي الغربي المزدهر بالحريات، بل بتعبير زمرة الدكتاتورية العسكرية اليونانية يومذاك فإن الدبابة لا يمكنها قتل الأغنية ومقاومتها أو منعها، وقيلت تلك الجملة حين أخذت الحشود وطلبة البوليتكنيك يغنون في شوارع أثينا أغاني وموسيقى ميكيس ثيوداركيس، وهو قابع في منفاه وسجنه في أحد الجزر اليونانية، يشاطره المحنة نفسها الشاعر الكبير يانيس ريتسوس في سجن من سجون الأرخبيل الجميل! وهما يعزفان وينشدان أغاني الحرية، يومها تتالت الانقلابات العسكرية وتنوعت أشكال القمع والملاحقات في قارات عدة، ولكن الأغنية السياسية ظلت تلعلع في أمكنة عديدة، وخلف جدران البيوت والمقاهي الشعبية، وبين أفئدة الناس، ففيها عاش الجمهور حالة التنفيس وحق التعبير وغياب الحريات والاحتجاج المكبوت. جاءت ماكيبي في هذه الحقبة المتوترة في جنوب إفريقيا، حيث كانت الجماهير تصرخ في شوارعها منددة بإطلاق سراح نلسون مانديلا، وبإلغاء حالة التمييز العنصري، وفي تلك الأيام السوداء انبعثت الأغنية السياسية ليس في جنوب إفريقيا وحدها فحسب، بل طارت هي ومريام ماكيبي إلى كل القارة، ومن هناك إلى أصقاع العالم، حاملة مشاعل التحريض السياسي والتعبئة وتسليط الضوء حول قضية بلادها، فهل بإمكان سلطات بيضاء عنصرية أن تفعل شيئاً إزاء أغنية تطير مع الأثير، ويحملها الناس معهم في حقائبهم وملابسهم؟ ولم تجد السلطات العنصرية انتقاما إلا أن تسحب جنسيتها كملاذ وسلوك فاشل، فعاشت في المنافي تتنقل كقوة وطير للحرية عبرت عنها الأغنية السياسية والتراثية، فما كان على العالم إلا أن يلقبها بإمبراطورة الأغنية الإفريقية، يومها كان العالم يزخر بأغان سياسية متنوعة أملتها المرحلة ونضالات الشعوب من أجل التحرر والديمقراطية والسلم العالمي.يومها كان الكثير من الأغنيات يترافق مع الهتافات في الشوارع السياسية على امتداد القارات المختلفة، ففي تشيلي كان هناك فيكتور هارا وأغنيات أميركية لاتينية من نمط «أديوس مجاجوس» فيما راحت الحركة المدنية المناهضة للتمييز العنصري في الشوارع الأميركية في أعوام 66-68 تردد أغاني للمغنية جون بيز، والمغنى جون ريد الأميركيين، حيث عرف العالم أغنية «we shall over come» وتعرف العالم على أغاني فرنسا وإيطاليا وإسبانيا وأميركا اللاتينية المعطاء في مجال الأغنية السياسية، فقد مزج شارعهم السياسي ما بين الهتافات والأغاني، بل استعار المؤلفون مفرداتهم وإيقاعاتهم اللحنية (الميلودي) من تلك الهتافات، بعد أن تم تحويلها إلى أغان دائمة ورمزية، حيث تهدأ الشوارع وينام الحمام خوفا من البوليس السري! فمن من جيلنا -نحن- لا يتذكر أغنية «آفانتي بابلو» الإيطالية التي حملت تاريخها الغنائي الشعوب المعادية للفاشية والحرب، ومع لحظة الأزمة العربية ونكبتها بعد هزيمة يونيو عام 1967 فرضت القصيدة السياسية وشعر المقاومة حضورا، فبرز محمود درويش ورفاقه من داخل إسرائيل يغنون الأغاني الأكثر تحريضا على الثورة والمقاومة، فما كان من مغنين من نمط الشيخ إمام ومرسيل خليفة إلا الدخول في حومة الأغنية السياسية كونهم يعيشون مرحلتها، وهم جزء لا يتجزأ منها ومن معاناتها، يومها كان الشارع العربي محبطا ومهزوماً فجاءت القصيدة والأغنية لكي تكون بمنزلة رافعة جديدة تنتشله من كبوته وخيبته.النكتة السياسية والأغنية والقصيدة لعبت دوما في تاريخ الإنسانية وفي لحظة من لحظاتها العابرة دورا معبرا عن تلك الروح الثقافية والوجدانية والعاطفية للشعب، وفي هذه المرحلة جاءت المغنية من جنوب إفريقيا لتنهض بعالمها الأكثر تمييزا وعنصرية من أي بلد كان، فهل بإمكان فنان، وفي لحظة ما، القدرة على عزل نفسه عن تلك السياط والوحشية؟لم تنس ماكيبي الأغنية العاطفية المتجاورة مع الأغنية السياسية، فقد كان التزامن الإنساني يتداخل مع بعضه في الستينيات والسبعينيات بقوة، بل كانت الأغنية السياسية وحدها كفيلة بأن ترفعها إلى السماء لتضيف إلى شهرتها نجومية كبيرة. واصلت إمبراطورة الأغنية الإفريقية جولاتها عبر العالم كسفير لا يقاوم، حاملة رسالة بلادها من أجل الخلاص، فمن مسارح الولايات المتحدة إلى مسارح لندن والساحات العامة والفضاء المكشوف حتى إيطاليا مستقرها وبيتها الدائم صدحت المغنية الإفريقية دون توقف، وقد أعيدت إليها جنسيتها في الثمانينيات، وقد عادت فيما بعد حيث شهدت انتصار قضيتها وسقوط جدار الفصل العنصري وصعود الرجل التاريخي إلى سدة السلطة. يومها هدأت الإمبراطورة العجوز عن غزو العالم بأغنياتها المحرضة والمذكرة بقضية بلادها المنسية.لن ينسى العالم وتحديدا الثقافة الإفريقية، بأن هناك مغنية من جنوب إفريقيا نادت بحرية القارة ووحدتها وهمومها ومستقبلها بأغنيتها «عودي يا إفريقيا come back Africa» فهل تنتهي رحلة القارة أم ستتواصل بعد موت ماكيبي التي ستكون ذكرى مستمرة في ذاكرة شعوب إفريقيا والعالم، وذاكرة مرحلتها الخصبة بالأغنية السياسية؟ * كاتب بحريني
مقالات
الدبابة لا يمكنها منع الأغنية
16-11-2008