صدر حديثاً عن دار الجمل كتاب «وقفات مع أبي الطيب المتنبي وغيره» للكاتب العراقي إبراهيم السامرائي، الذي قدّم موجز فوائد تتصل بشاعر العربية المتنبي الذي «ملأ الدنيا وشغل الناس»، وما كان من صلته بغيره، وما قيل فيه. يرى الكاتب أن ديوان المتنبي حفل بفوائد في اللغة حفّزت علماء العربية على تعقّبها، بين ناقد رافض وآخر يرى فيها ذخائر لغة.

Ad

يعود الكاتب إلى ما قيل عن «تشيّع» المتنبي، وما تخبط فيه أهل الرأي، ولم يكن لهم من سند في شعره. يتبين السامرائي في صلات الشاعر وأدبه أنه انصرف انصرافاً تاماً عن الخلافة العباسية، ويؤكد صلات المتنبي بالدويلات التي حكم فيها أصحابها مبتعدين عن الخلافة العباسية منقطعين عنها كل الانقطاع، أو بتلك الدويلات التي احتفظت بخيط واهٍِ من الاعتراف بالخلافة. غير أن ذلك لم يمنع المتنبي من الاتصال بمن انقطع عن الخلافة وعُرف بتشيّعه كالحمدانيين، وبغيرهم ممن بقوا على ولائهم الضعيف بالخلافة العباسية ولم يكونوا أصحاب تشيّع. يضيف السامرائي: وإن كان من تشيّع لدى المتنبي فقد يكون شيئاً من شعوره وولائه لـ{يمنية» فيه، ويدرك الكاتب هذه اليمنية في قوله مادحاً علي بن ابراهيم التنوخي:

{أمنسي السكون وحضرموتا ووالدتي وكندة والسبيعا»

{السكون» و{حضرموت» و{كندة» و{السبيعا» من مواضع الكوفة ومحالها، وهذا يدل على أصوله اليمنية التي بقيت له في الكوفة. ومع ذلك كله، لا يرى السامرائي في ابتعاد المتنبي عن الرموز العباسية وفي التزامه اليمنية انحيازاً إلى «تشيّع» التزم به.

تخبّط

يلحظ السامرائي أن المتنبي اتصل بالشيعة في البلاد التي عرفها، واختلط بهم، فقد عرف في اللاذقية أصحابه التنوخيين فمدحهم ومدح الحسين ابن إسحاق التنوخي. لكن من خلال دراسة ديوان المتنبي، يشعرنا الأخير أنه غير مؤمن بما يفرضه التشيّع من رأي، وقد تخبّط الباحثون في أمر تشيّع المتنبي حتى غلا بعضهم فألقى عليه لبوساً شيعياً ووصله بالإمام «القائم». يعتقد الكاتب أنه إذا وُجد «التشيع» لدى المتنبي فهو غير ذي قيمة لها دلالة خاصة، فقد مدح عموماً من جنح إلى التشيّع مذهباً، وقد نجد بينهم علويي النسب، ومن هؤلاء أبو القاسم طاهر بن الحسين العلوي. لكن ذلك لا يدل على ميله إلى طائفة بعينها، والدليل على ذلك صلته بكافور الإخشيدي وغيره ممن لم يكونوا أصحاب تشيّع. كذلك حسَب السامرائي أن بغض الشريفين الرضي والمرتضى للمتنبي الذي تقدّم عصره عليهما سببه إدراكهما مكانته في دنيا الأدب، وقد ملأ الدنيا وشغل الناس، ولم يكن من التشيّع المزعوم إلا لبوساً مهلهل النسيج.

نبوّة

عن قصة ادعاء المتنبي للنبّوة، يلفت السامرائي إلى أن المتنبي لم يدّع النبوة كذباً، ورضي أن يقال له المتنبي ولم يرَ فيها شيئاً من ادعاء وكذب. يفيد المؤلف بأن أبو الطيب ادعى النبوة في بادية السماوة، وكان من شيعته جماعة من كلب وكلاب. اتصل باللاذقية وكان فيها جماعة من تنوخ الذين عرفوا بأصولهم اليمنية، واشتهر عنه ادعاؤه النبوة حتى خرج عليه لؤلؤ أمير حمص من الإخشيديين فقاتله وشرد من اجتمع عليه من بني كلب وكلاب وغيرهم، وحبسه دهراً طويلاً وكاد يتلف. يعتقد السامرائي أن المتنبي ربما ادعى النبوة لما اعتقد أنه يفوق الناس، فقال:

«وما أنا منهم بالعيش فيهم

ولكن معدن الذهب الرغام»

أما عن خصوم الشاعر وأصدقائه، فيشير السامرائي الى أن المعري تفرّد بصداقة المتنبي، ويلّمح إلى أن في هذه الصداقة شيئاً من اتفاقهما على رأي في الناس والخلق والدين، ونتيجة ذلك نصل إلى ما كان من نبوّته، وقبلها ما كان من «باطنية» نجدها في الابتعاد عن أهل السنة. يجد المؤلف أن أبا الطيب حفّز الكثيرين على منابذته، ولم يستثنِ، في رأيه بالناس وذمّهم، الملوك، وسعى إلى أن تتألب عليه جمهرة أهل المعرفة وغيرهم من الناس، وأحس في نفسه أنه نبي ولم يدّع النبوة وقد قال في إحدى قصائده:

«ما مُقامي بأرض نخلة إلا

كمُقام المسيح بين اليهود»

قال أيضاً:

«أنا في أمة تداركها الله

غريباً كصالح في ثمود»

يضيف الكاتب أنه بعدما هجا المتنبي كافور، عاد الى بغداد وحلّ بها، فزاره المهلبي، وزير معز الولة، برفقة أبو الفرج صاحب الأغاني، طالباً منه مدحه، فرفض لأنه يترفع عن مدح غير الملوك. لذلك هاجم الشعراء والأدباء المتنبي، أمثال ابن حجاج وابن سكّرة، وانتقدوه وأظهروا للناس ما فيه من سقط وسرق. كذلك يقول السامرائي إن ابن خالويه كان ممن تطاولوا على المتنبي وعابوه ونقدوه. من خصوم المتنبي أيضاً، أبو فراس الحمداني، أبن عم الأمير سيف الدولة.

شرح

يفيد الكاتب بأن أول من شرح ديوان المتنبي هو أبو الفتح عثمان بن جني الذي عاصر المتنبي وأعجب به، وقد سمى شرحه «الفَسر»، بالإضافة الى الواحدي، وإبن فورجة من رجال القرن الخامس هجري، الذي رد على إبن جني من خلال كتاب بعنوان «الفتح على أبي الفتح، والتجني على ابن جني». هناك أيضاً بعض الأندلسيين أمثال ابن الإفليلي والخوارزمي وغيرهم الكثير ممن فسّروا ديوان المتنبي، لعل أبرزهم المعري الذي وضع كتابين هما: اللامع العزيزي، ومعجز أحمد.

في عصرنا الراهن، اهتم عدد من الباحثين بشرح ديوان المتنبي أمثال ناصيف وابراهيم اليازجي، وعبد الرحمان البرقوقي، ومحمود شاكر في كتاب «المتنبي». بالإضافة إلى ذلك، فإن مستشرقين معاصرين كثر اهتموا بشعر المتنبي، منهم الفرنسي بلاشير.

لغة

أما لغة أبي الطيب المتنبي فقد خصّص لها الكاتب دراسة خاصة، واعتبر أن الذي حفّزه على هذا العمل شعور بأن الحاجة تدعو إلى أن يكون لنا منهج تطبيقي في دراسة اللغة وأطرها، ومن ثم المشاركة في دراسة حقبة من تاريخ العربية. درج المعنيون بتدريس ما يسمى بـ«فقه اللغة»، بحسب السامرائي، على شيء غبرت أيامه يعرضون فيه لشيء يتصل بالكلمة وأبنيتها وما يكون من ترادفها وتضادها ونحتها وتركيبها.

يعتبر السامرائي أن المتنبي صاحب قدر كبير من شعر المثل والقول المأثور، لكنه لم يسمِّه «حكيماً»، لأن «الحكمة» كلمة أطلقها العرب على ما ندعوه فلسفة، لأن الفلسفة لم نعرفها في المصطلح العلمي إلا لدى أهل هذه المعرفة في الأندلس وافريقيا، ولدى الفارابي.

أما عن فن الغزل والنسيب عند المتنبي، فيقول الكاتب إن ما كان له من هذا الفن جاء في «مقدمات» شعره، وذلك يعني لدى الكثير من الدارسين أنه «غزل تقليدي»، ووسيلة يحسن البدء بها للوصول إلى الغرض. في هذا الإطار قال المتنبي:

«إن كان مدح فالنسب مقدم

أكلُّ فصيحِ قال شعراً متيَّم؟»

غير أن هذا النسيب يتجاوز كونه وسيلة، ذلك أن الشاعر صاحب الفن يعمد إليه مستجيباً لإحساس إنساني فيكون منه أدب إنساني. يقول المتنبي:

«لعينيك ما يلقى الفؤاد وما لقي

وللحب ما لم يبق مني وما بقي

وما أنا ممن يملك العشق لبَّه

ولكن من يبصر جفونك يعشقٍ»

يختم السامرائي كتابه بقصيدة للجواهري بعنوان: «فتى الفتان.... المتنبي....» يقول في مطلعها:

«تحدى الموت واختزل الزمانا فتى لوّى من الزمن العنانا

فتى خبط الدنى والناس طرّا وآلى أن يكونهما، فكانا..

أراب الجن إنس عبقريٌ

بوادي «عبقر» افترش الجنانا

تطوف الحور زدن بما تغنى وهن الفاتنات به افتنانا