إذا كانت الطوابع البريدية احتفظت بدورها الأساسي الذي يتلخّص في تنظيم وإدارة المراسلات البريدية، فإنها اكتسبت في الوقت نفسه أهمية ثقافية من خلال صور المناسبات والمعالم الثقافية والتراثية التي تشكل (أو تؤكّد) هوية الجماعة على نحو ما... هنا قراءة في المعرض الذي أقامه هاوي جمع الطوابع اللبناني شفيق طالب في ذكرى النكبة ـ في مدينة صيدا (جنوب لبنان) تحت عنوان «فلسطين بعيون الطوابع البريدية».لم يكن يعلم رونالد هيل الذي أحدث ثورة في المراسلات البريدية، حين اقترح ضرورة التزامِ المُرسل بدفع أُجرة البريد بعد أن كان يقوم المُرسَل إليه (أو المُستلِم) بدفعها ويُلزَم القيام بواجبه على الرغم من أنه ليس مسؤولاً عن عملية الإرسال التي تتطلب جهد الكثير من العاملين في الإدارات والمؤسسات التي تتولى القيام بمهمّة المراسلة بين الأفرادـ لم يكن يعلم هيل أن تلك الأُجرة ستأخذ شكل الطابع البريدي الذي سيصبح عالماً يضجّ بالصُور والأفكار ويأخذ أبعاده في مختلف المناسبات والمجالات.بعد الحادثة الطريفة التي أوحت له بفكرة الطابع والتي تتلخّص في أنه شاهد إحدى السيدات تستلم رسالة من ساعي البريد فتقرأ على إحدى زواياها إشارةً، كانت اتفقت مع المُرسِل على مضمونها، ثم تُعيدها الى الساعي معلنةً رفضها استلام الرسالة للتهرّب من دفع الرسم المتوجّب عليها ـ بعد تلك الحادثة عملت الملكة فكتوريا (ملكة بريطانيا في ذلك الوقت) على إيجاد وسيلةٍ لتطبيق فكرة هيل، فأصدرت أول طابع بريدي في 6 مايو (أيار) عام 1840، ومنحت هيل، على فكرته التي أوحت بالطابع، جائزةً تقدَّر بعشرين ألف جنيه استرليني (كان مبلغاً ذا قيمة كبيرة في ذلك الوقت)، بالإضافة الى لقب «سير» الذي أتاح له أن يحظى بحياة لائقةٍ وكريمة وأن يُدفن بعد وفاته في مقبرة النبلاء عام 1897.بدا واضحاً خلال العقود الثلاثة الأولى التي أعقبت صدور أول طابع بريدي، مدى تأثير هذا الطابع في مجال الإتصالات، التي كانت تقتصر على المراسلات البريدية، وفي المجالات الثقافية والإجتماعية والسياسية التي تجلّت في تعبيرات رمزية أو مباشرة فوق المساحات الصغيرة، ولكن البالغة الأهمية، للطوابع البريدية. عكست تلك الطوابع أبرز التحولات التاريخية التي عرفتها الدول والمجتمعات لتشكّل سجّلاً للأحداث والمناسبات ولتعبّر عن وعي ووجدان تلك المجتمعات في مختلف الحقبات. بات من الطبيعي أن نجد فوق المساحات الصغيرة لتلك «الوثائق المنمنمة» الصور والعبارات والرموز والأرقام التي تجسّد مرحلة أو تحولاً في حياة الجماعة أو تلقي الضوء على أبرز معالمها التراثية والثقافية.وعيشكّلت الطوابع البريدية بهذا المعنى مصدراً للدراسات التاريخية ولقراءة أبرز الظواهر (الإجتماعية والثقافية...)، كذلك شكلت مرجعاً أساسياً لتوثيق الأحداث والوقائع. لذلك عملت الحكومات في مختلف البلدان على جعل الطابع البريدي سجلاً لذاكرة الجماعة ووسيلة لترسيخ وعيها وانتمائها، وتأكيد هويتها من خلال الوقائع التاريخية والمعالم التراثية. منذ نهاية القرن التاسع عشر، بدأت تظهر الطوابع التذكارية التي تصدر في مناسبات وطنية وقومية كذكرى الاستقلال والأعياد الوطنية وتولّي الحكم وانتخابات رؤساء البلاد... كذلك بدأت تصدر في مناسبات ثقافية واجتماعية واقتصادية كانعقاد المؤتمرات حول قضايا محدّدة أو تأسيس جامعة أو بناء مستشفى أو مساندة احدى القضايا أو المشاركة في دعم أحد القطاعات.وإذا كانت الطوابع البريدية احتفظت بدورها الأساسي الذي يتلخّص في تنظيم المراسلات البريدية وإدارتها، فإنها اكتسبت في الوقت نفسه أهمية ثقافية من خلال صور المناسبات والمعالم التراثية التي تشكّل هوية الجماعة أو تحدّد انتماءها على نحو ما. لذلك فإن ظاهرة تجميع الطوابع البريدية وعمليات التبادل التي تتمّ بين هواة جمعها ونشوء الأندية والجمعيات التي تعنى بتلك الظاهرة سوف يؤكد دورها في توثيق الأحداث وتمكين الروابط الثقافية داخل الجماعات أو بين الجماعات والشعوب. هذا الدور الذي يعكس الوقائع التاريخية والمعالم الحضارية من دون لبسٍ أو خداع هو الذي دفع شفيق علي طالب، أحد أبرز هواة جمع الطوابع في العالم، ونائب رئيس الأكاديمية العالمية للطوابع، الى تنظيم معرضه في مدينة صيدا في جنوب لبنان تحت عنوان «ذاكرة فلسطين بعيون الطوابع البريدية».يضمّ المعرض نماذج من الأختام والطوابع البريدية التي تعكس حقبة من تاريخ فلسطين المعاصر تمتد من عام 1840 بداية الخدمات البريدية التي نظمّها العثمانيون في فلسطين الى عام 1948 ذكرى النكبة. كذلك يضمّ الطوابع البريدية التي صدرت في الدول العربية في مناسبات مختلفة لدعم القضية الفلسطينية وتأكيد حق الفلسطينيين في العودة، بالإضافة الى الطوابع التي أصدرتها منظمة التحرير الفلسطينية.القدسنشاهد في المعرض أيضًا الأختام والطوابع التي وضعت على بطاقات الرسائل ومغلفاتها عام 1867، حيث نُظِّم إرسالان بريديان أسبوعياً بين القدس ويافا، والأختام والطوابع التي وضعت على الرسائل عام 1884 حيث أصبح هناك إرسال بريدي يومي بين يافا ونابلس.مع بداية الاحتلال العسكري البريطاني، أصدرت القوات البريطانية طابعاً خاصاً لاستخدامه في الأردن وكيليكيا وسورية ولبنان. خلال فترة الانتداب، صدرت طوابع حملت رسوم أبرز المعالم في فلسطين وهي «قبر راحيل» و»قبّة الصخرة» و»قلعة القدس» و»جامع طبرية»، وبأنواع متعددة من الورق وبألوانٍ مختلفة وطبعت في مطابع هاريسون وأولاده في لندن.بالإضافة الى الطوابع التي صدرت في الحقبة العثمانية وخلال فترة الانتداب البريطاني، يضمّ المعرض مجموعة يصعب حصرها في إطار أو مرحلة لتنوّع مناسبات صدورها وارتباطها بحقبة شهدت الكثير من التحولات التي ستترك أثرها في الخارطة السياسية والثقافية في فلسطين والعالم العربي. الا أنه يمكننا أن نقسّم المعرض إلى ثلاث مجموعات ـ لم يشأ طالب ترتيبها كأقسام مستقلة في المعرض ـ يعكس كل منها جانباً من حياة الفلسطينيين وكيانهم الطبيعي والسياسي والثقافي...تهجيريحتوي القسم الأول على تصوير مأساة الشعب الفلسطيني ابتداءً من النكبة (وهي مناسبة تنظيم المعرض الذي أقامه طالب في خان الأفرنج في مدينة صيدا في جنوب لبنان) مروراً بعمليات التهجير التي ارتكبت منذ احتلال فلسطين، وصولاً الى مجزرة صبرا وشاتيلا في بيروت خلال الحرب الأهلية اللبنانية ومع دخول جيش الاحتلال الإسرائيلي بيروت. تشكّل صوَر ومشاهد التهجير والمجازر التي رافقتها في عام النكبة 1948 الكمية الأوّفر عدداً والأكثر تعبيراً عن المأساة الفلسطينية. في هذا العام استولت القوات الصهيونية على 80% من الأراضي الفلسطينية وأزالت 400 قرية وشردت 750 ألفاً من مدنهم وقراهم وارتكبت المجازر المنظمة في عدد من المدن والقرى، وكان لا بدّ من أن ينعكس ذلك على الطوابع البريدية المستخدمة التي صدرت في سنوات لاحقة في ذكرى النكبة في معظم الدول العربية. من الطوابع تلك التي تحمل الصور المأساوية لمجزرة دير ياسين (الكويت) ولجريمة أحراق المسجد الأقصى (الجمهورية العربية المتحدة) ومجزرة صبرا وشاتيلا (تونس- سورية ـ لبنان) واغتيال الشهيد محمد الدرّة (العراق ـ الأردن)...حملت الطوابع الصور الحقيقية والحيّة للأحداث والوقائع التي لا تزال ماثلة في ذاكرة الشعب الفلسطيني وتشكل علامات فارقة في تاريخنا المعاصر. كذلك حملت التعبيرات والرموز الفنية التي تجسد الأبعاد القومية والإنسانية للقضية الفلسطينية.أما القسم الثاني من الطوابع البريدية فيجسّد المناسبات العامة والأعياد الوطنية والأيام التاريخية وصور القادة والزعماء والمعارك التي شكلت معالم بارزة للهوية الفلسطينية. بالإضافة الى مشاهد الميلاد في بيت لحم، معركة حطين، ثورة 1936، الانتفاضة الفلسطينية، ومعركة الكرامة.يشتمل القسم الثالث من المعرض على الطوابع التي تحمل صور المعالم التراثية والثقافية، وأبرزها المسجد الأقصى، القدس، كنسية القيامة، والأسواق القديمة، بالإضافة الى المشاهد الطبيعية لأرض فلسطين. يستعرض معرض شفيق طالب، الذي نظم في خان الافرنج في مدينة صيدا خلال الشهر الفائت تحت عنوان «ذاكرة فلسطين بعيون الطوابع البريدية»، مختلف مراحل التاريخ الفلسطيني المعاصر منذ بداية ظهور الطابع البريدي في فلسطين عام 1840، ويستعيد معالم الدولة الفلسطينية ويعرض لمجريات الحياة اليومية والأعياد والأيام التي لا تزال ماثلة في ذاكرة العالم.بدا المعرض بهذا المعنى قراءة بليغة للتاريخ والواقع الفلسطيني يندُر أن نقع عليها في صفحات كتب المؤرخين، أو في أدراج المؤسسات الدولية أو حتى في الحكايات التي تُروىَ في غيابات كثيرة!
توابل - ثقافات
في معرض لشفيق طالب الطوابع البريديّة مرآة التاريخ الفلسطيني المعاصر
19-08-2008