بغض النظر عن هوية الساكن الجديد أو الساكنة الجديدة للبيت الأبيض بدايات العام القادم، لن تملك الإدارة الرئاسية القادمة خاصة في عامها الأول إلا أن تتعامل مع هذه التركة الثقيلة بمنطق إدارة الأزمات والصراعات وبمقاربات تسكينية لا تسعى إلى حلول جذرية. هناك ملامح أربعة رئيسة لأزمة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط: أولاً، أضحت كلفة السياسة الأميركية في المنطقة باهظة للغاية، خصوصاً حين النظر إلى الوجود العسكري الأميركي في العراق وتداعياته سواء على مستوى الإنفاق العسكري أو الخسائر بالأرواح أو التحديات المؤسسية الكبيرة التي يواجهها اليوم جيش أميركي توجد قواته بكثافة في أكثر من مسرح عملياتي.ثانياً، لم تعد الولايات المتحدة وهي القوة العظمى الراغبة في ممارسة الهيمنة عالمياً، وصاحبة المصالح الحيوية في الشرق الأوسط بقادرة على إدارة الصراعات الإقليمية على نحو يتواءم مع رؤاها ويحد من التهديدات الواردة على مصالحها. اليوم، وبعد إدارتين متعاقبتين لبوش الذي أراد فريقه إعادة صياغة الخريطة الشرق أوسطية في القضاء على أو تهميش أعداء الولايات المتحدة، لا تستطيع واشنطن إدارة الصراع في لبنان أو فلسطين بين السلطة و«حماس» وكذلك بين الفلسطينيين وإسرائيل أو في العراق، وبالرغم من وجودها العسكري القوي فيه أو في ما يتعلق بالملفات الإيرانية المتعددة بصورة حاسمة، بل تتعرض في جميع هذه الساحات لمنافسة متصاعدة من دول مناوئة ومن تنظيمات غير دولانية ترفع شعارات المقاومة.ثالثاً، ثمة أزمة مصداقية وفاعلية حقيقية تعانيها السياسات الأميركية في المنطقة. والحديث هنا ليس عن خطاب ترويج الديمقراطية الذي صاغته إدارة بوش ولم تلتزم به قبل فوز «حماس» بالانتخابات التشريعية الفلسطينية 2006 وهجرته تماماً بعدها، بل عن الدور التقليدي الذي لعبته واشنطن منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ألا وهو حماية الحلفاء وعلى رأسهم إسرائيل وقيادة ترتيبات الأمن الجماعي خصوصا في الخليج ضماناً لاستمرار تدفق إمدادات النفط. هناك العديد من علامات الاستفهام لدى صناع القرار بالدول الحليفة للولايات المتحدة حول مدى فاعلية سياساتها، بل تبرز ببعض الحالات إرهاصات قناعات إقليمية ترى أنها قد استحالت عبئاً ومسبباً للعديد من الأزمات. ولا شك في أن ذلك يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالمغامرات العسكرية لإدارة بوش وحصيلتها المحدودة، إن لم تكن السلبية، وانحيازها غير المحدود لإسرائيل على حساب المصالح العربية.رابعاً، تراجعت مساحات حركة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وتضاءلت أدواتها على الرغم من وجودها العسكري غير المسبوق في المنطقة. نعم لواشنطن أدوار رئيسة في العراق والخليج وفلسطين ولبنان، بيد أنها لا تتحرك بمفردها. ويخطئ من يظن أن الحركة خارج سياق السياسات الأميركية تأتي فقط من أطراف كإيران وسورية و«حماس» و«حزب الله»، فهي لا تقتصر عليهم بل تمتد بوضوح على حلفاء للقوة العظمى أضحوا يخشون من تداعيات فعلها كالسعودية ومصر والأردن. والحصيلة على هذا المستوى هي استقلالية نسبية متصاعدة للأطراف الإقليمية الصديقة والمناوئة وساحات صراع تتنوع وتتعدد مدخلاتها وتتعقد خرائط المصالح والسياسات الفاعلة بها.وبغض النظر عن هوية الساكن الجديد أو الساكنة الجديدة للبيت الأبيض بدايات العام القادم، لن تملك الإدارة الرئاسية القادمة خاصة في عامها الأول إلا أن تتعامل مع هذه التركة الثقيلة بمنطق إدارة الأزمات والصراعات وبمقاربات تسكينية لا تسعى إلى حلول جذرية. نعم ستختلف تراتبية أولويات إدارة جمهورية مع ماكين المهووس بإيران وبالعراق والحرب على الإرهاب عن إدارة ديمقراطية بقيادة هيلاري كلينتون (وواقع الأمر أن فرص حصولها على ترشيح الحزب الديمقراطي قد تضاءلت اليوم للغاية) تريد التفرغ للاقتصاد والتجارة والحد من نزيف الموارد الأميركية بالشرق الأوسط، وكذلك بكل تأكيد عن إدارة لأوباما ستريد التغيير وتعول أكثر على الدبلوماسية عوضاً عن المواجهة. إلا أن تركة بوش ستحتم على الإدارة القادمة التقاط الأنفاس لفترة والبحث المكثف عن مداخل استراتيجية وعملياتية لبداية أميركية جديدة في الشرق الأوسط.*كبير باحثين بمؤسسة كارنيغي- واشنطن
مقالات
تركة بوش- أزمة الولايات المتحدة الشرق أوسطية
12-05-2008