يعرف الجميع لماذا لم يأت أبو مازن إلى اجتماع الدوحة، وما الذي فعله خالد مشعل في ذلك المؤتمر، مستفيداً من تراجيدية الناس الذين يُقصَفون بالقذائف الفسفورية ليلا ونهارا من الطائرات والدبابات الإسرائيلية، فتختفي المقاومة ولا نجد فعاليتها وصوتها نهارا، وعندما يهبط الظلام تبدأ أصوات «القسام» تعلن أرقامها كيفما تشاء. وبما أن مؤتمر الدوحة كان للمصافحة أكثر منه للمصالحة، ولمحاولة التخفيف من توتر قوتين داخل الأراضي الفلسطينية، فلم يكن لحظتها مناسباً إلا تصريحات حول ضرورة الوحدة الوطنية للشعب الفلسطيني، ومثل تلك الشعارات في لحظة دك قطاع غزة بوابل الموت رحب بها الجميع، لعل تلك المفردات تزيح هموم الواقع السياسي والعسكري المزري. ولكن للأسف طار الرخ الفلسطيني من الدوحة إلى الكويت، فلم تنفع برودة المصافحات القطرية في مؤتمر الكويت، ولم يتفق الجميع حول بياناتها أيضا. ولكن من بإمكانه ألا يدعو إلى وقف إطلاق النار والتهدئة و فك الحصار وفتح المعابر والقبول بفكرة الجلوس مع إسرائيل، إذ لا يمكن أن تحل قضية صراع بغياب أحد طرفيه عن التفاوض؟ ومن هنا بدأ مأزق جناح الرخ الفلسطيني المكسور «حماس»، إذ لا تعترف إسرائيل والعالم الغربي إلا بالسلطة الفلسطينية، ولهذا بدأ جناح الرخ الفتحاوي أكثر تمدداً في الفضاء السياسي العربي والعالمي رسميا، فيما راح جناح الرخ الفلسطيني الآخر يراهن على الشارع وحده، كما كان أيام القصف والحرب، ولكن للمرحلة السياسية متطلباتها مثلما للمرحلة النضالية والعسكرية متطلباتها، فكيف يتم التفاوض في حالة التهدئة داخل البيت الفلسطيني وهناك رؤية من «حماس» بعدم الاعتراف بالمنظمة، فبدأ العزف على لحن مشروع «الكيان الجديد»!! وهو لحن سبق أن طرح في الساحة الفلسطينية، ولكن الظروف حينها لم تختل في توازناتها، بينما تتوهم «حماس» بعد تلك الأحداث الأليمة لقطاع غزة بأنها خرجت من الحرب بجناحها قويا، وبإمكانها التحليق حيثما تشاء للتشاور في الآلية والشروط الجديدة، وهي تعتقد أن «فتح» بدت أضعف أثناء الحرب، وستكون نتائجها أضعف بعدها، ولهذا وجدت فرصتها في إعادة طرح مشروعها القديم. ومن خلال هذا الكيان المنتظر بإمكان «حماس» إجبار العالم وإسرائيل على الجلوس معها، ومع انصهار المعادن وولادة معدن جديد يختفي ذلك الشبح السابق من تهمة الإرهاب.وعلى الرغم من اللقاءات العربية التي جرت من دون حضور «حماس» باعتبارها ليست الجهة الرسمية المعبرة عن الشعب الفلسطيني كمنظمة التحرير، فإنها لم تتمكن من إزاحتها من لعبة التفاوض المتعددة الألوان على الأرض الوقع، فماذا تفعل «حماس» بذلك المأزق السياسي؟ فلا تكفي الحرب الإعلامية والسياسية ضد أبو مازن، مثلما لم تُجدِ رعدة وانفعالات «أبو مازن» في إزالة حقيقة واقعة على الأرض اسمها الشعب الفلسطيني.لهذا وقع الجناحان في مأزقهما، جناح «حماس» الذي رفض رسميا (دعك من طنطنة الدعوات لحضور مؤتمر هنا ومؤتمر هناك) أن تبقى المنظمة وحدها المعبر الرسمي، بينما لا يمكن للجنح الآخر «المنظمة» تخطي حقيقة شعبها وتوازن القوى الجديد الذي عكسته الانتخابات ونتائجها. لهذا يجد كل طرف جناحه الذي يطير به للعالم محاولا التأكيد على تعميق حقه في التغيير مهما تعددت صيغة الجمل السياسية المتلونة، «فالبيروسترويكا» الفلسطينية تخشاها منظمة التحرير، بل لا تحبها طهران ودول أخرى، ولكنها تتحمس للدعوة لها عندما تتحمس لهدم المعبد الفلسطيني.وجدنا كيف أزبد وأرعد أبو مازن في وجه «حماس» عندما اقتربت من القرابين المقدسة، لمجرد أن قبس «حماس» الحارق وصل إلى ذلك المعبد، ولكن هل يجوز أن تزايد «حماس» بلغة طهران لهدم بيتها الفلسطيني لمجرد أن جناحها نما وسمح لها بالطيران بعيدا؟ بل ساعدها على أن تفهم أن الوقت قد حان لاستبدال المنظمة بتاريخها ودورها وتمثيلها بكيان جديد، الهدف منه الاستحواذ على المنظمة بطريقة التفافية، يجعل كل العواصم مفتوحة أمامها للحديث بحرية وقوة بما فيها منصة الأمم المتحدة والدول الكبرى.وإذا اعتمدت «حماس» على قراءة فترة ضرب قطاع غزة وتضامن العالم مع شعبها ضد الحرب وبربريته، وقياس ترمومتر الشارع، على أنه بوابة الدخول بسهولة لتحقيق ما تريد، تكون متوهمة بسهولة النفاذ من بوابة السياسة ولعبتها الأعقد من القذائف، فالحرب ليست إلا في خدمة السياسة وأداة من أدواتها.ها هو الرخ الفلسطيني يطير من القاهرة الى عواصم متعددة بجناحه الوحيد، ويبقى الجناح الآخر يحلق بين دمشق والدوحة وطهران، ثم يعودان معا إلى حضن القاهرة، التي لا خيار عربيا من دونها مهما حاول الآخرون تأليب الشارع ضدها، فالعش الفلسطيني بيته هناك قبل أن يكون في غزة ورم الله، فالسياسة فن الواقع والممكن.* كاتب بحريني
مقالات
طائر الرخ الفلسطيني يبحث عن عشه
08-02-2009