تهل هذا الأسبوع الذكرى الثلاثون لانتصار الثورة الإسلامية في إيران وعودة الإمام الخميني منتصراً من منفاه، مدشناً فصلاً جديداً من تاريخ إيران والمنطقة. ذكرى هذا العام تختلف عن كل سابقاتها التسع والعشرين لأن طهران اليوم في بؤرة المشهد الإقليمي وليست على هامشه مثلما كانت في الماضي، ولأن حضورها السياسي الحالي في المنطقة ربما يكون الأقوى في تاريخها الحديث. وساهم في هذه النتيجة فائقة الأهمية التخبط الأميركي الواضح في توازنات وحساسيات المنطقة، فمهدت واشنطن –من حيث لم تحتسب- الطريق أمام صعود إيران الإقليمي غير المسبوق، سواء باحتلالها أفغانستان وإزاحتها لخصم طهران العقائدي في كابول (حركة طالبان) أو باحتلال العراق، حائط الصد الكبير أمام طموحات إيران الإقليمية. وكان أن راهنت إيران على فوز المرشح الديمقراطي باراك أوباما في انتخابات الرئاسة الأميركية وخروج الرئيس المنتهية ولايته جورج دبليو بوش من مباني البيت الأبيض ومن الوجدان الأميركي، لأن ذلك سيفتح آفاق الحوار بين واشنطن وطهران، وهو ما سيقنن في النهاية دور إيران الإقليمي في المنطقة بموافقة أميركية. وللإنصاف فقد صح رهان طهران هنا أيضاً.

صمدت إيران في العام الماضي أمام الضغوط الأميركية المكثفة أملاً في خروج جورج دبليو بوش من المكتب البيضاوي وفي الجلوس بعدها إلى مائدة المفاوضات مع أوباما، وهو أمر يبدو مرتسماً في الأفق الآن. ولذلك ستؤدي المفاوضات المرتقبة مع إدارة أوباما إلى نتائج سياسية وجيوبوليتيكية فائقة الأهمية لإيران، سواء نجحت المفاوضات أم فشلت. والاحتمال الأخير من شأنه أن يجعل الضغوط الأميركية على إيران تحظى بإجماع دولي واسع بفضل مصداقية الرئيس الجديد أولاً، ولأن تعنت إيران لن يمكن تبريره ساعتها بتعنت إدارة بوش المتشددة ثانياً. أما إذا نجحت إيران في المفاوضات، فستتغير الصورة الاستراتيجية في جوار إيران الجغرافي وفي كامل المنطقة، لأن المفاوضات المرتقبة بين الطرفين مثل أي تطورات دراماتيكية تفتح آفاقا أمام إيران كما تطرح عليها تحديات في الوقت نفسه.

Ad

ولا يخفى في هذا السياق ملاحظة أن موائد التفاوض الأميركي-الإيراني القادم لن تختلف عن ساحات الحروب من كون أن النتائج المنبثقة من الاحتمالين لهما نفس المعاني الجيوبوليتيكية، بالرغم من اختلاف الطرائق لتحقيق هذه المعاني وتلك الأهداف.

تعد تصريحات الرئيس محمود أحمدي نجاد الأخيرة التي تفرض شروطاً على إدارة أوباما محاولة بارعة لرفع سقف المطالب السياسية الإيرانية قبل المفاوضات، ومن ثم تأمين حد أدنى تفاوضي لهذه المطالب. ومثلما هي حال أي مفاوضات سياسية أو اقتصادية فمن الطبيعي دائماً في المفاوضات أن يكون العرض الافتتاحي ممثلاً لأقصى المطالب التفاوضية التي ستنزل في الجولات التفاوضية اللاحقة؛ بالتوازي مع تنازل الطرف الآخر عن مطالب مقابلة، لأن منطق المفاوضات يقول إن أياً من الطرفين لن يحصل على مطالبه كلها من الطرف الآخر، وإلا عد ذلك استسلاماً من أحد الطرفين في مواجهة الآخر، ولكن على الناحية المقابلة تمر عملية صنع القرار في الولايات المتحدة الأميركية بمراحل أعقد بكثير من الحسابات الإيرانية الناجحة حتى الآن في حسابات الشرق الأوسط، ولذلك فربما يكون من الحصافة أن تؤجل إيران الاحتفال بانتصار رهاناتها الأساسية إلى ما بعد نجاح المفاوضات.

تصطف الآن قوى كونية كبرى في مواجهة إيران من وراء الكواليس التفاوضية الأميركية، وربما يؤدي خروج إيران من متاريسها في الشرق الأوسط إلى موائد المفاوضات إلى جعلها –للمفارقة- مكشوفة أمام الولايات المتحدة الأميركية أكثر من أي وقت مضى وإدارة أوباما التي تختلف مع إدارة بوش ربما في الوسائل ولكن ليس بالضرورة في الغايات. إذا كان لإيران بعض الأنصار في اللوبي النفطي الأميركي، فإن لخصومها تأثير عميق وحضور كثيف سواء لدى اللوبي الصهيوني أو المجمع الصناعي-العسكري، وهذا التصارع بين مجموعات الضغط العملاقة وشبكات المصالح غير المرئية في الولايات المتحدة الأميركية لا يمكن حساب إحداثياته بمعايير ومفهوم ومصطلحات الشرق الأوسط. يقول المثل الإيراني البالغ الحصافة والدلالة: «عد أفراخك الصغيرة فقط عند نهاية الشتاء»، بمعنى آخر لا تفرط في تقدير ما لديك الآن، بل المهم أن تنميه وترعاه ليبقى على حاله فيما بعد.

أعتقد، في ضوء الأداء السياسي الإيراني العالي الكفاءة في السنوات الخمس الأخيرة، أن طهران تعي حجم التحدي المطروح عليها في الذكرى الثلاثين لانتصار ثورتها.

* مدير مركز الشرق للدراسات الإقليمية والاستراتيجية-القاهرة