مجدداً أثبت استهزاء آلة القتل الإسرائيلية بدماء وأرواح الفلسطينيين وكذلك جريمة الصمت العالمي إزاء مذبحة غزة أن منظومة العلاقات الدولية القائمة اليوم تنطوي على ظلم بيِّن لضعفاء الأرض والمستضعفين من شعوبها، ولا تلتفت طويلاً إلى حقوقهم وعلى رأسها الحق في الحياة وتقرير المصير. ففي الوقت الذي واصلت فيه إسرائيل حربها الهمجية على غزة المحتلة وتكرر استخدامها المفرط للقوة العسكرية بقصفها للمباني السكنية والمدارس والمستشفيات والمساجد، وتصاعدت أعداد القتلى والجرحى من المدنيين الفلسطينيين، اكتفت القوى الكبرى بدعوات لفظية لوقف إطلاق النار وبخطوات دبلوماسية بطيئة وجزئية، بل تماهت الزعيمة الأميركية كعادتها مع الرؤية الإسرائيلية ضاربةً عرض الحائط بالمواثيق الدولية ومؤيدةً استمرار حرب وحشية «بإرهاب حماس» وصواريخها. لذا لم يكن غريباً ألا تستهجن العواصم الغربية أو يمتعض ساستها حين شددت وزيرة الخارجية الإسرائيلية تسيبي ليفني علناً، وبتبجح منقطع النظير، على أن دولتها تدافع بحربها على غزة عن «قيم العالم الحر» التي يتهددها طوفان الإرهابيين الفلسطينيين، فعالم ليفني الحر هو عالم الأقوياء، وعدالته هي حصاد توظيفهم لمصادر قوتهم وتكالبهم على النفوذ، وشرعته هي سلب الضعفاء حقوقهم كلما دعت الحاجة أو اقتضت الظروف.

نعم أبدع عالمنا العديد من المواثيق المنظمة للعلاقات الدولية والعهود الضامنة لحقوق الإنسان، بيد أنها، وعلى رقي مضامينها، أبداً لم تسْلم من خروقات الأقوياء المستمرة، ولم ترق مجتمعة قط إلى مستوى الإطار القانوني الملزم والموجه للعلاقات بين الدول والشعوب.

Ad

والحقيقة أن الفلسطينيين، وكما ينبئنا تاريخ القرن العشرين وتطالعنا وقائع الأعوام الماضية البائسة، هم أحد أكثر شعوب العالم تعرضاً للظلم والاضطهاد ومعاناةً من استلاب حقهم في تقرير المصير والعيش الكريم منذ تأسيس دولة إسرائيل في 1948 ثم احتلالها للضفة الغربية وغزة في 1967. ليس لأحد إذن، سواء في العالم العربي أو خارجه وحال الشعب الفلسطيني هو على ما هو عليه، أن يسلبه قولاً أو فعلاً حق رئيس تبقى له، ألا وهو الحق في مقاومة المحتل ودفع الظلم بالاستراتيجيات والوسائل المختلفة المتاحة. بيد أن السؤال المركزي الناظم لمقاومة الشعب الفلسطيني للمحتل دار دوماً ومازال حول هوية هذه الاستراتيجيات، ونوعية تلك الوسائل، وأسباب وتداعيات تفضيل البعض منها على ما عداه، فانتقلت الحركة الوطنية الفلسطينية على مراحل من حلم تحرير كامل فلسطين التاريخية إلى قبول هدف إنشاء دولة مستقلة على أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة، ومن اعتماد لعقيدة المقاومة المسلحة ضد المحتل إلى تفضيل خيار البحث السلمي عن حلول تفاوضية مع إسرائيل بوساطات دولية وإقليمية. ورغم أن مجمل تطورات الساحة الفلسطينية منذ أن تم توقيع اتفاقيات أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير في 1993 إلى اليوم تدلل بلا ريب على تهافت خيار التسوية التفاوضية- فلا دولة أنشئت ولا مستوطنات أزيلت بل توالى تراجع احتمالية تحقق الأولى مع استمرار الثانية في الاتساع- تظل المفاضلة بين خياري التسوية السلمية والمقاومة المسلحة مشروعة بل ومطلوبة لتحديد البوصلة الاستراتيجية للفعل الفلسطيني. كذلك، ومع أن تنامي دور حركة «حماس» المتمسكة بالمقاومة المسلحة والرافضة لخيار التسوية غيَّر كثيراً من المعادلة الداخلية الفلسطينية إلى الحد الذي انفصلت معه مسارات الضفة عن غزة، فإن الثمن الباهظ لمقاومة «حماس» والذي يتحمله بأرواحهم المدنيون الفلسطينيون، ومحدودية نتائجها في مواجهة الآلة العسكرية الإسرائيلية، وفي ظل ظروف إقليمية ودولية غير مواتية تفرض جميعاً النظر في شروط المقاومة المسلحة وحيثيات الموازنة بينها وبين خيار التسوية والمفاوضات.

هذه المفاضلة بين الخيارين هي جوهر قضية فلسطين اليوم وحسمها الضروري لمواجهة إسرائيل والقوى الكبرى المنحازة لها منوط بفصائل الحركة الوطنية الفلسطينية، وعلى رأسها حركتا «فتح» و«حماس». من هنا أهمية وأولوية الشروع الفوري في حوار استراتيجي جاد بين الفصائل دون شروط مسبقة، وبهدف الدفع باتجاه تفضيل ملزم؛ إما للتسوية التفاوضية على مراوغتها وإما للمقاومة المسلحة على ثمنها الباهظ، ثم توحيد الصف الفلسطيني استناداً إلى ذلك وبعد استفتاء شعبي حر ومخاطبة المحيط العربي والعالم بلغة الخيار الواحد وتحمل تبعاته.

دون توافق وطني حقيقي بين الفلسطينيين ودون تحديد واضح للبوصلة الاستراتيجية للفعل الفلسطيني، ستظل القضية كشأنها خلال الأعوام الماضية تراوح في مساحات رمادية، فلا مفاوضات بدعم شعبي صريح لتأسيس الدولة على أراضي الضفة والقطاع، ولا مقاومة مسلحة ضد المحتل توظف جميع عناصر القدرة الفلسطينية سعياً للانعتاق والتحرر.

* كبير باحثين في مؤسسة «كارنيغي» للسلام الدولي- واشنطن.