تقف إيران على أعتاب انتخابات الرئاسية العاشرة منذ انتصار ثورتها عام 1979، والمزمع أن تجري في الثاني عشر من الشهر القادم، وهي استحقاق مفصلي وحاسم في تاريخ جمهورية إيران الإسلامية بسبب السياقات الثلاثة التي تتحكم بمسارها: السياق المحلي الإيراني وتأثير هذه الانتخابات على التوازنات بين أجنحة السياسة الإيرانية، والسياق الإقليمي المتولد عن التأثير الجيوبوليتيكي العميق لإيران في جوارها الجغرافي، وأخيراً السياق الدولي باعتبار هذه الانتخابات محطة مفصلية قبل التعامل مع مبادرات الانفتاح التي ينتهجها الرئيس الأميركي باراك أوباما حيال إيران.

ولأن أي تقدم ملموس في العلاقات الأميركية الإيرانية سيأتي بعد انتخابات الرئاسة الإيرانية، سيتوجب على طهران أن ترتب بيتها الداخلي أولاً قبل أن تشرع في المفاوضات مع واشنطن. ولذلك يهتم المقال بالسياق المحلي الإيراني باعتباره الأرضية الانطلاقية للسياستين الإقليمية والدولية، عبر إلقاء الضوء على خريطة التيارات السياسية وصولاً إلى تعيين نقاط التوازن بين الأجنحة السياسية في إيران ورسم مساحات الالتقاء وهوامش الاختلاف فيما بينها.

Ad

تميزت المؤسسة الحاكمة في إيران بتعدد مستويات السلطة فيها وبطبيعتها المتبدلة والزمنية، وبسبب تلك الحقيقة لا يصمد تحليل الواقع السياسي في إيران لفترات طويلة، إذ تشهد خرائط السياسة هناك تنوعات وتعرجات متتالية ومتتابعة، قلما تعرفها توازنات السلطة في دول الشرق الأوسط. تصعد الرموز السياسية الإيرانية في فترات لتعود هابطة في فترات أخرى حسب مقتضيات التوازنات والتناغم بين الأجنحة، تلك التي جعلت من إيران الثورية طائراً خرافياً يحلق فوق الخواء الإقليمي بسلاسة؛ مبدلاً شكل أجنحته وعددها، مثنى وثلاث. هكذا تبدلت خرائط السياسة وتغيرت التوازنات بين أجنحة السلطة الإيرانية منذ أن قفز محمود أحمدي نجاد إلى واجهة المشهد بعد فوزه في انتخابات رئاسة الجمهورية السابقة عام 2005. من وقتها لم يعد للفرز الرائج والسهل بين ما هو «إصلاحي» و«محافظ» مكان على أرض الواقع ولا معنى في خرائط السياسة، بحيث أصبح هذا التصنيف بالفعل جزءاً لا يتجزأ من ماضي إيران السياسي.

تنقسم خرائط السياسة الإيرانية الآن موزعة على ثلاث قوى رئيسة هي بالترتيب من اليسار إلى اليمين: المحافظون المعتدلون ويمثلهم في انتخابات الرئاسة المرشح مير حسين موسوي (يجري التعامل معه مجازاً باعتباره مرشح «الإصلاحيين»)، والمحافظون التقليديون بقيادة رموز النظام الدينية من آيات الله ومعهم رموز البازار ولم يعلن أسماء مرشحيهم عند كتابة هذه السطور، وأخيراً المجموعة المدنية الراديكالية الآتية من عمق مؤسسة الحرس الثوري الإيراني والتي ينتمي إليها نجاد ومنافسه الحالي محسن رضائي القائد السابق للحرس الثوري. وبالإضافة إلى الأجنحة الثلاثة يبدو أن هناك جناحاً افتراضياً يمثله الشيخ مهدي كروبي المحسوب تاريخياً على الرئيس خاتمي وعلى التيار الإصلاحي السابق، ولكن دون أن يمثل كروبي جناحاً سياسياً بخلفيات اقتصادية-اجتماعية وهو ما يخرجه بالنهاية من قائمة المرشحين الجديين للرئاسة. وفوق الأجنحة-التيارات الثلاثة يوجد مقام مرشد الثورة، ممسكاً بالخيوط ومتحكماً بالتوازنات بين القوى السياسية، التي ربما يبدو تصنيفها بين اليسار واليمين أقرب إلى الوصف الجغرافي منه إلى الفرز السياسي.

يبدو أن هناك أغلبية داخل معسكر المحافظين المعتدلين ترى في نجاد عائقاً أمام تعزيز الأمن القومي الإيراني عبر استثمار الفرص التي تطرحها مبادرات أوباما الانفتاحية، وتحييد الأخطار المتولدة عنها في حال فشلت المفاوضات. وإذ يعتقد التيار المحافظ الأصولي أن سياساته أجبرت الولايات المتحدة الأميركية على تقديم عروض للحوار مع إيران وسحبت خيار الضربة العسكرية من التداول، فإن المضي في نفس السياسة سيجبر واشنطن على تقديم المزيد من التنازلات. وعلى الناحية المقابلة يعتقد المعسكر المحافظ التقليدي والمعسكر الأصولي المتحالف مع الحرس الثوري أن المحادثات مع واشنطن ستقود إلى تصدع أيديولوجي داخل النظام الإيراني، لأن التخلي عن خيار «الممانعة» سوف يقود إلى استدراج النظام خارج تحصيناته الأيديولوجية وتعريته أيديولوجياً. على العكس من ذلك يعتقد المحافظون المعتدلون أن الخطر الأساسي على النظام في طهران يأتي من داخل النظام وليس خارجه، وأن على طهران اغتنام الفرصة التي يعرضها أوباما لتحقيق أهداف السياسة الخارجية والأمن القومي. وتأسيساً على ذلك تعتبر الانتخابات الرئاسية القادمة مفصلية في تاريخ الثورة الإيرانية لأنها ستتعامل مباشرة مع تلك الفرص وهذه التحديات.

عرف النظام السياسي الإيراني تاريخياً مزية التنوع في أجنحته السياسية، إذ تموج تيارات سياسية متباينة منضوية تحت النظام تتفق وتختلف فيما بينها ولكن دون أن يستطيع تيار واحد الهيمنة على مقدرات الدولة بحيث يمسك وحده بتلابيب السياسة كما في الكثير من الدول العربية. وعلى العكس مما يبدو على السطح فإن إيران لا تحكم من قبل شريحة واحدة هي طبقة رجال الدين، بل من تحالف واسع بين تيارات سياسية مختلفة بمرجعيات اجتماعية-اقتصادية متباينة.

ويقود هذا التباين والاختلاف في الأساسين الاقتصادي والاجتماعي إلى تنافس على خلفية أيديولوجية بين التيارات السياسية المختلفة في إيران، وتالياً تؤدي هذه الحقيقة إلى التأسيس لعامل مهم مفاده أن عملية صنع القرار لا تجري داخل نخبة ضيقة بارتباطات اجتماعية واحدة، بل تعتبر عملية صنع القرار في إيران عملية طويلة ومعقدة لأنها تتطلب إجراء «توافق» بين أجنحة النظام السياسي المختلفة.

قد تختلف مع إيران ونظامها السياسي أو حتى مع سياسات إيران الإقليمية، وهو أمر مفهوم ومشروع، ولكن يتوجب عليك للإنصاف الاعتراف بحقيقة لها أهميتها الفائقة في منطقتنا: حتى اللحظة لا يمكن التكهن بالرابح في الانتخابات الرئاسية القادمة في إيران!

* مدير مركز الشرق للدراسات الإقليمية والاستراتيجية-القاهرة.

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء