من المعروف أن موسى كليم الله، وهو من أولي العزم من الرسل، ومع ذلك شاء الله أن يلقنه درس التواضع، وأن يجعله يقف من الخضر موقف التلميذ، ويبدو الخضر، وكأنه أعلم وأفقه من موسى كليم الله.

● وعندما قتل الخضر الغلام ظهرت الحيرة وظهر الاعتراض على وجه موسى، وعندما قدَّم الخضر تفسير قتله للغلام لموسى رضي موسى وعرف أن علم الباطن أقوى من علم الظاهر... لقد علمه الخضر أنه قتل هذا الغلام؛ لأن مستقبله الحافل بالكفر والطغيان سيكون وبالاً على والديه ونفسه والناس أجمعين.

Ad

وقد أخبر الله الخضر أن أبويه كانا مؤمنين، وقد ابتلاهما ربهما بهذا الغلام الذي سيكفر، ويكون طاغياً باغياً ظالماً عندما يكبر ويشتد عوده.

وسيكون وبالاً على أبويه المؤمنين ويرهقهما لكفره وطغيانه وفسقه ، وسيكون عاقاً كبيراً لهما.

● لقد أطْلَعَ الله الخضر على هذا المستقبل المظلم لهذا الغلام، فأمره أن يقتله، لا لأنه مذنب

ـ فهو صغيرـ بل لأنه سيكون وبالاً على والديه بهذا الحال من الكفر والطغيان ... كما أنه سيكون وبالاً على نفسه ، وعلى الناس جميعاً .

{وَأَمَّا الغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً * فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً} صلى الله عليه وسلمالكهف : 80، 81) .

وقد كشف الخضر لموسى عن شيئين في وقت واحد .. لقد كشف له محدودية علمه ـ أي علم موسى ـ إلى علم الله ، كما كشف له أن كثيراً من المصائب التي تقع على الأرض ، قد تخفي في ردائها الأسود الكئيب رحمة وعدلاً ولطفاً ..{فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً} .

● وهكذا تختفي النعمة في ثياب المحنة، وترتدي الرحمة قناع الكارثة، ويختلف ظاهر الأشياء عن باطنها .. {وما يعقلها إلا العالمون} .

ولقد عرف التاريخ ـ لاسيما الإسلامي ـ صوراً من حياة الصابرين الذين أدركوا الصلة العميقة بين قدر الله وحكمته ، وظاهر الأمور وباطنها، وأحبوا ما أحبه الله لهم، ولم يعترضوا بل رضوا بقضاء الله وقدره .

وعندما دمعت عينا النبي صلى الله عليه وسلم عند موت ابنه إبراهيم كان قلبه راضياً راسخاً ثابتاً لا يتزعزع عن الرضا بقضاء الله عز وجل .

وقال : إنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون ، ولكنا لا نقول إلا ما يرضي ربنا .

وقد ابتلى الله نبيه إبراهيم ؛ فأمره بذبح ابنه فرضي، وابتلاه بمحنة النار فرضي، وابتلاه بالهجرة وترك الأهل والديار فرضي، وابتلاه بترك أهله في الصحراء فرضي.

● وقد كُف بصرُ سعد بن أبي وقاص ، فاستحثه ولده أن يدعو لنفسه ـ وهو مستجاب الدعوة ـ فأبى وقال :

« يا بني قضاء الله أحب إليَّ من بصري، أيرضى الله لي ولا أرضاه لنفسي».

● وقد مكث عمران بن حصين ملقى على سريره ثلاثين سنة لا يقوم ولا يقعد، قد ثقب له في سريره موضع لقضاء حاجته ... فكان يقول :

«شيء أحبه الله لي أحببته لنفسي، أعلم أنها ليست عقوبة فلا أزال راضياً، والله لكأني أسمع زيارة الملائكة لي وتسبيح الملائكة معي».

وقد كان عمر بن عبد العزيز يقول :

«ما لي في الأمور من هوى وسرور، سوى مواقع قضاء الله عز وجل فيهما»، وقد قبض ابنه وأخوه ومولاه في ثلاثة أيام ، فقال : «أعوذ بالله أن تكون لي محبة في شيء من الأمور تخالف محبة الله».

وقد قال الحسن البصري : ارض عن الله يرضى الله عنك ، أما سمعت قوله:{رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} صلى الله عليه وسلمالمجادلة : 22).

وقد روي عن عروة بن الزبير أنه قال:

«اللهم كان لي سبعة بنين ، فأخذت منهم واحداً وأبقيت لي ستة ، فلك الحمد، وكان لي أربعة أطراف فأخذت طرفاً وأبقيت ثلاثة ، فلك الحمد ، فإن ابتليت فقد عافيت، ولئن أخذت فقد أبقيت، الله يعلم أني ما مشيت عليك إلا للخيرـ يقصد ساقه التي بترت ـ الحمد لله ، شيء سبقني إلى الجنة»، يقصد ساقه.

● وقد كان سفينان الثوري يقول :

«اللهم ارض عنا» ..

أما تستحي أن تسأل الله الرضا عنك، وأنت غير راض عنه!!

ومتى يكون العبد راضياً عن الله؟ إن ذلك لن يكون إلا إذا كانت ثقته بربه عند المصيبة مثل سروره بربه عند النعمة ...

● وقد ماتت زوجة ابن المبارك ، فقيل له : ما الرضا؟ !

فقال : ألا تتمنى خلاف حالك .

ويقول الله تعالى على لسان نبيه في الحديث القدسي :

«أهل ذكري أهل مودتي ، أهل شكري أهل زيارتي ، أهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي ، إن تابوا إليَّ فأنا حبيبهم، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من الذنوب والمعايب» .

صلى الله عليه وسلمالقصة الثالثة)

{ وَأَمَّا الجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي المَدِينَةِ} صلى الله عليه وسلمالكهف : 82) .

الجدار ملك لغلامين يتيمين صغيرين قاصرين في المدينة، وكان أبوهما رجلاً صالحاً مؤمناً تقياً، يعرف لؤم أهل المدينة وبخلهم وخبثهم ، ويخشاهم، على ولديه ، وترك لولديه كنزاً من المال؛ دفنه في الأرض ، وبنى عليه الجدار مبالغة في إخفائه، ولم يُبْلغ الغلامين بالأمر خوفاً عليهما.

فلما مرَّ الخضرُ وموسى ـ عليهما السلام ـ بالجدار ، كان على وشك السقوط، ولو سقط الجدار فسيظهر الكنز الذي تحته، وعندما يشاهده أهل المدينة البخلاء، سيصادرونه وينهبونه، وبذلك تضيع ثروة الغلامين اليتيمين .

وقد أمر الله الخضر أن يتطوع بترميم الجدار ، ورفعه وإقامته، ليبقى إلى أن يكبُر الغلامان ، ويبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما، ويحسنا التصرف؛ فلم يظهر الكنز، وقد قبض الله الرزق للغلامين عشرين سنة ـ وهي باكورة حياتهما ـ لأنه لو أُظهِرَ لضاع .

والقصص الثلاث تعالج مصائب ثلاث: مصيبة الكوارث الطبيعية، ومصيبة الموت، ومصيبة تأخر الرزق ...

وقد تعلم موسى الصبر، وتعلم أن إرادة الله كلها خيرٌ { وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} صلى الله عليه وسلمالبقرة : 216) .

● كما أنه ـ أي موسى ـ لم يكن تابعاً لأحد من قبل ؛ فتعلم أن يكون تابعاً وهو أمر يحتاج إلى تواضع.

وهذا الرضا بالقضاء والقدر والإيمان بالظاهر والباطن، وبالأسباب وخلق الله للأسباب .. كلها دروس أساس من دروس القصص القرآني.