بعد المواطن اللبناني بمسافة صغيرة، كان ارتياح المواطن السوري لاتّفاق الدوحة. نسمح لأنفسنا بهذا الاستنتاج، ما دمنا محرومين من إمكانات استطلاع الرأي العام الشفافة والعلمية، أو حتى القريبة من ذلك.

كان واضحاً للوهلة الأولى ذلك الإحساس ببعض الأمان؛ وباسترخاء الحدّ الأدنى اللازم لمواجهة الاستحقاقات الاقتصادية والمعيشية؛ والطمع بإشعاعات الحرية والديمقراطية؛ والراحة من زفرات لبنانية تفيض أحياناً إلى سورية والسوريين غير نظامهم، وتوفير وقتٍ من متابعة تفاصيل التفاصيل للأخبار اللبنانية، يعود على ذلك اللازم للتنفّس أو الاهتمام بالنفس الخاصة والعامة؛ وغير ذلك.

Ad

لا يمنع ذلك القلقَ المتبقّي، حتى انتخاب رئيس للجمهورية أولاً، ثمّ اجتياز عقبة تشكيل الحكومة وتوزيع الحقائب النوعية، وآليّات الدخول في مسألة السلاح الذي غدا ذكر اسمه باعثاً على استحضاره، ولذلك يقتصد البعض في إطلاق تفاؤلهم، ويكتفون باحتمال أن تكون المسألة مجرّد هدنة طويلة نسبياً.

وربّما أصبح ممكناً الآن، بعد الخوف الضاغط منذ أوائل هذا الشهر، ثم جلاء الأمر عن اتّفاق، أن ننظر إلى الوراء ونراجع رأينا، فما كان غير مفهوم أخذ تتضحّ معالمه، ولو برسوم أوليّة، وبجوانب معيّنة بعدُ. ومن ذلك إثارة مسألة المطار والاتّصالات المتفجّرة، واجتياح مسلّحي «حزب الله» لبيروت، كما الانتقال بالمفاوضات السورية الإسرائيلية إلى مرحلة الإعلان المتواقت عنها وعن بعض تفاصيلها. وحتى الاستعصاء الذي استمرّ أربعة أيام (حول جانب جزئي متعلّق بقانون الانتخاب، وتُرك لميشيل عون مكافأة له، يحاول فيها أن ينتزع من الحريري جزءاً من تمثيل بيروت) انهار فجأة في اللحظة المحدّدة الأخيرة.

فكأنّما كانت مقوّمات التسوية والانفراج معروفة بالأصل، لقليلين بالطبع. نحن لم نعرف ذلك، ولا أولئك المتعبون بالكرّ والفرّ، وفي لبنان والشأن اللبناني، تبقى لتلك الأشياء قدرة على تفجير الوضع، وفي ذلك راحة لعقولنا من الشعور بالعجز مع ضحالة المعلومات.

في بنود الاتّفاق عودة إلى وراء في أشياء، وتقدّم عمليّ في أخرى، وسوف يذكر التاريخ هذا وذاك.

فما اتّفق عليه مثلاً في مسألة قانون الانتخاب؛ وهو ركن رئيس في بناء الدولة الوطنية الديمقراطية الحديثة؛ يعود لبنان نصف قرن من الزمان إلى اعتماد القضاء في الدوائر الانتخابية، بمزيد من تكريس الطائفية واحتكار الزعامة والمحاصصة. ومتّفق عليه في لبنان، نخبته المعنية على الأقل، أن برمجة الانتهاء من الطائفية السياسية، المنصوص عليها في اتّفاق الطائف، هي هدف كبير لتقدّم النظام. وقد جاء مشروع ما سمّي بلجنة فؤاد بطرس يتوسّط ما بين الهدف والحاجة العملية الراهنة، لكن اتفاق الدوحة انصبّ على المكاسب الآنية، وأبقى لمشروع بطرس إمكان الاستفادة من بعض تفاصيله الأصغر وحسب.

وما اتّفق عليه في شأن «حكومة الوحدة الوطنية» القادمة بعد انتخاب الرئيس، يوجّه ضربة للممارسة الديمقراطية، لحساب «التوافق» الذي يخشى كثيرون أن يصبح عرفاً عشائرياً لبارونات البلاد، تجري المطالبة به مع كل استقالة لحكومة في المستقبل وتشكيل أخرى جديدة. يُضاف إلى المبدأ الذي تمّ استحداثه حول «الفيتو» المعطّل، من خلال طائفة أولاً، أو ثلث أعضاء الحكومة. وأزيحت مبادئ التمثيل النسبي بذلك، من انتخاب جماعة التشريع والمراقبة إلى انتقاء عصبة الحكم والتنفيذ.

لكنّ هنالك تقدّماً في التعاطي مع مفهوم الدولة، ومسألة ضرورة بسط سلطتها على كل أراضيها، واحتكارها للعنف وأدواته. إضافة إلى التقدّم العملي الضروري، في انتخاب رئيس للجمهورية وملء الفراغ الذي يصبح شديد الخطورة مع استمراره.

بل هنالك استعادة لمسار تبلور لبنان حول ذاته، على أساس استقلاله وسيادته. فمهما بدا للبعض أن الحال أقلّ من توقّعات سمير قصير في الرابع عشر من مارس 2005، إلاّ أن التراجع بعد التقدّم طبيعي، ووقف هذا التراجع نجاح ومنجاة من الهاوية، لكنه لا يكون انتصاراً إلاّ باستعادة زخم التقدم وآليّاته.

ويستطيع اللبنانيون فيما يبدو أن يستثمروا -شرط أن يكون ذلك من دون تلكؤ- تردّد الأطراف الأكثر تطرّفاُ واستعداداً لبيع سلامة لبنان وشراء راحة بالهم. فالأميركيون منشغلون بانتخاباتهم، ومستعجلون على «سلق» طبخة ورق ما بين الإسرائيليين والفلسطينيين، والإسرائيليون يسايرونهم، لكنهم يميلون ربما إلى ضمان مسار أهدأ مع سورية، والسلطة السورية ترغب في الخروج من عزلتها ولا تجد أمامها إلا النافذة التركية على التفاوض مع الإسرائيليين. والإيرانيون لا يستطيعون تجنّب الموازنة بين ضرورة التوافق مع الأميركيين في العراق، و«مبدئية» المبارزة حول الملف النووي.

قلنا قديماً إن شعار وحدة المسارين صحيح، ولكن على طريقتنا في ربط الاستقلال والاستقرار والحرية والديمقراطية في لبنان وسورية. لذلك نهنئ اللبنانيين وأنفسنا باجتيازهم حاجز الخراب، ونتذكّر الشعار بابتسامة مختلفة.

* كاتب سوري