قرار منظمة الدول المصدرة للبترول «أوبك» تخفيض انتاجها من النفط الخام بمقدار 1.5 مليون برميل يوميا دفعة واحدة، وذلك اعتبارا من مطلع شهر نوفمبر المقبل، يُعد قرارا رئيسيا، لأن مقدار الخفض في الانتاج يعد قياسيا، فهو يعادل نحو 5% من اجمالي انتاج دول المنظمة، أو نحو 80% من اجمالي ما تصدره الكويت من النفط الخام ومنتجاته إلى الأسواق الدولية.

Ad

رد الفعل الاولي للاسواق كان سلبيا، وخلافا لتوقعات المنظمة حيث سجل سعر الخام الاميركي الخفيف تراجعا اضافيا بلغت قيمته نحو 5 دولارات للبرميل، إذ أقفل الجمعة على سعر 64.60 دولارا للبرميل، كما كان قد تم بيع البرميل بسعر يصل إلى نحو 62 دولارا خلال فترة التداول، كما سجل سعر خام برنت في السوق الأوروبي تراجعا أقوى، إذ انخفض سعر البرميل نحو 6 دولارات، وبذلك يكون سعر النفط قد فقد نحو 57% من مستوى سعر الذروة الذي كان قد سجله في شهر يوليو الماضي، ونحو 41 دولارا خلال شهر، ونحو 25% منذ مطلع شهر أكتوبر الجاري.

رد الفعل المعاكس هذا ليس مستغربا، وتبرره أسباب، لعل أهمها ما يأتي:

أولاً: عندما شرعت منظمة «أوبك» في تنفيذ نظام حصص الانتاج «نظام الكوتا» في منتصف عقد الثمانينيات، احتدم الصراع بين دول المنظمة على «كعكة الطلب» التي كانت قد انكمشت بفعل الركود الاقتصادي، وتراجع حصة المنظمة من السوق بعد دخول منتجين رئيسيين جدد إلى الأسواق، وبعد تسارع وتيرة احلال بدائل النفط، واستغلال عدد من المكامن الهامشية التي كانت خارج دائرة الانتاج سابقا، ونتج عن هذا الصراع تجاوز بعض أو جل اعضاء «أوبك» لحصص الانتاج التي حددتها المنظمة لدولها.

ونتيجة لعدم وجود آلية تضمن التزام دول المنظمة بحصص الانتاج، لاسيما في حالة التراجع الحاد في الاسعار حيث تزداد شهية الدول المنتجة لبيع كميات اكبر من النفط لتعويض الانخفاض في عوائدها النفطية الناتج عن تراجع الاسعار، لم يعد لقرار الاوبك بخفض الانتاج وقع في الاسواق مشابه لقراراتها المتعلقة بزيادة الانتاج، على سبيل المقارنة.

ثانيا: عندما تبدأ الاسعار في التراجع، يتوقع المستهلكون دائما استمرار هذا التراجع، ومن ثم يتم تأجيل قرار الشراء إلى المستقبل، لاسيما في ظل وجود المخزونات الاستراتيجية الهائلة من النفط الخام، التي يمكن استخدامها الآن، ثم اعادة ملئها بأسعار أدنى لاحقا.

ثالثا: لا شك ان للتوقعات بانتقال الازمة المالية إلى الاقتصاد الواقعي، ومن ثم دخول الاقتصاد العالمي إلى مرحلة كساد قد تطول أثراً على اسعار النفط يفوق في قوته أثر خفض انتاج دول اوبك، خاصة أن كل منتجي النفط في العالم -بما فيهم دول أوبك- سيحاولون بيع أقصى ما يمكنهم بيعه من النفط في ظل الاسعار المتدنية لتعظيم القيمة المتدنية لايراداتهم.

رابعا: كما أشرت في اكثر من مقالة سابقة، فإن قرار تحديد سعر برميل النفط الخام لم يعد بيد وزراء منظمة «أوبك» خصوصاً بعد ان اتسع دور البراميل «الجافة» او البراميل «الورقية» في اسواق المضاربات السلعية في التأثير على حركة هذا السعر.

وعلى ما ارى فليس هناك من اساس قوي للمخاوف التي تشعر بها دول «أوبك» نتيجة لتراجع اسعار النفط، فهذا التراجع امر متوقع بل إنه طبيعي انسجاما مع حركة الدورة الاقتصادية الديناميكية للاقتصاد العالمي، والتي لابد أن تشهد رواجا يتلوه ركود، ثم يتلوه رواج، وهكذا بالتتابع، بل لست أبالغ ان قلت بأن هذا التراجع في السعر هو من مصلحة دول «أوبك» في الاجل الطويل، لان من شأنه ان يحقق الاهداف التالية:

1- خروج المنتجين الهامشيين وجلهم من خارج «أوبك» من دائرة الانتاج، مما يؤدي في المحصلة النهائية الى زيادة الطلب على نفوط البلدان الرئيسية، ومنها أغلبية الدول الأعضاء في «أوبك».

2- تعزيز النمو الاقتصادي في مجموعة البلدان النامية، وهي المصدر الرئيسي للنمو في الطلب على الطاقة منذ عقد الثمانينيات وتعزيز انتعاش الاقتصادات الكبرى مثل الصين والهند والبرازيل، التي ما زال انتاجها الصناعي ونشاطها الاقتصادي يسجل، حتى شهر سبتمبر الماضي على الأقل، معدلات نمو باهرة، ومن شأن النمو في هذه البلدان أن يساعد على استمرار تماسك بل زيادة الطلب المستقبلي على النفط، لاسيما أن هذه الاقتصادات هي اقتصادات انتاج سلعي تتطلب طبيعته استخداما مكثفا للطاقة، بعكس الاقتصادات المتقدمة التي شهدت تحولا ملموسا من الانتاج السلعي الى انتاج الخدمات التي تتطلب قدرا أقل من الطاقة.

3- تنشيط الصناعات الشديدة التفاعل مع اسعار الطاقة، مثل صناعة خدمات النقل والسياحة وصناعة انتاج السيارات والطائرات والسلع الكهربائية ومواد البناء والصناعات التعدينية والمنجمية، وغيرها من الصناعات الانتاجية، حيث ان من شأن الاسعار المنخفضة للنفط ان تقلل من تكاليف الانتاج في هذه الانشطة، ومن ثم تساعد على نموها، مما يؤدي الى حفز النمو الاقتصادي عامة.

4- التقليل من سرعة تطوير بدائل النفط، والتحول الى هذه البدائل مما يحافظ على اسواق المنتجات الهيدروكربونية، واهمها النفط، وارى في هذا السياق اهمية ان تبادر دول منظمة «أوبك» الى الاستثمار بجدية في صناعة تطوير المنتجات البترولية «النظيفة» (الصديقة للبيئة) والدخول في شراكات استراتيجية بهذا الشأن مع البلدان الصناعية.

انه وقت للتفاؤل والعمل، وليس وقتا للبكاء على الاطلال.