يكشف كتاب بوب وود وورد Bob Wood Ward «الحرب من الداخل: تاريخ البيت الأبيض السري- 2006/2008» كيف أن الرئيس الأميركي جورج بوش كان وراء هندسة الحرب على العراق، ويتحدث عن برنامج أميركي في غاية السرية لمواجهة الجماعات «المتمردة»، وهو ما أطلق عليه «الحرب من الداخل»، وكان مؤلف الكتاب قد كشف أخيراً لـ«لاري كينغ Larry King» مقدّم برنامج حواري في فضائية الـ«CNN» عن معلومات قال إنها بحوزته تخص أنشطة وفاعليات عسكرية أميركية قامت بتنفيذها في العراق للحد من ظاهرة العنف.

Ad

ويكشف الكتاب أيضاً أن واشنطن كانت تتجسس على رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي وحكومته، رغم تأكيدات عن متانة علاقته مع الرئيس الأميركي بوش، الأمر الذي يضع مسألة انعدام الثقة قائمة، لاسيما من الجانب الأميركي، خصوصاً بشأن ما يثار من علاقات متميزة مع إيران عدوهم الأساسي في المنطقة من بعض الأوساط المتنفذة في الحكومة العراقية!!

وقد أثارت المعلومات التي وردت في الكتاب، لاسيما بعض الخطط السرية وعمليات التجسس، قلقاً واسعاً ليس على صعيد الواقع العراقي والإقليمي فحسب، بل على صعيد كبار المسؤولين الأميركيين، فقد نقل وود وورد عن مصدر مسؤول قوله: إننا على علم بكل ما يقوله المالكي، معلقاً على عمليات التجسس التي طالت مقربين من رئيس الوزراء العراق وأعضاء في الحكومة العراقية. وللأسف لم يكن رد الفعل الرسمي العراقي بالمستوى المطلوب، حتى على الصعيد الشخصي، ناهيكم عن صعيد علاقات البلدين!

جدير بالذكر أن دخول النظام السابق في حرب مع إيران دامت 8 أعوام ومن ثم تورطه في مغامرة احتلال الكويت، دفع بالعديد من الأجهزة والقوى الدولية إلى فتح ملفاتها العراقية، وسعيها لاستقطاب عراقيين معارضين أو من داخل النظام السابق، من أجل الحصول على معلومات من جهة، ومن جهة أخرى السعي لتوظيف بعضهم بصفتهم «أصدقاء» أو «وكلاء» أو «متعاونين» معها لأهداف مشتركة كما برر « البعض» في حينها، رغم تورط العديد منهم، بل غرقهم في هذا المغطس الخطر.

وبسبب أوضاع القمع المستمرة وضعف وهزال التركيبات السياسية وتعويلها على القوى الخارجية الإقليمية والدولية، نشأت حالة من «التهادن» إزاء التعامل مع القوى الخارجية، بل إن البعض اندفع في هذا الخيار، خصوصاً وهو لم يكن يمتلك أي رصيد على صعيد الداخل، فوجد أن مجرد إقامة نوع من العلاقة مع القوى الخارجية سيكون بمنزلة التعويض عن وجود قوة شعبية تقف معه، ولهذا برر «عدم قدرة القوى المعارضة من الإطاحة بالنظام»، يستوجب «التعاون المصلحي» المؤقت مع قوى دولية تشترك في نفس الأهداف، في حين أن البعض الآخر لجأ إلى التعامل بحكم ارتباطات مذهبية أو مصالح سياسية مع قوى إقليمية، لكن عينه كانت ترنو إلى التعاون مع قوى كبرى لأن بيدها مفاتيح الحل كما أعتقد. وتحقق الأمر على نحو علني وليس سرياً، لاسيما بعد احتلال العراق، تحت باب «الواقعية السياسية» و«الأمر الواقع» والسعي للتخلص من آثار الاحتلال، بإقناع المحتلين بأن مهمتهم قد انتهت، وكأنهم هم الذين يحددون ذلك، وابتلع البعض لسانه وكل ما قاله عن الامبريالية العالمية والاستكبار العالمي والصراع الدولي وغير ذلك، وأصبح جزءًا من المشهد السياسي السائد، لدرجة أن كل ما عداه أصبح أقرب إلى الإرهاب والنظام السابق والقوى المتخلفة، وانقلبت المعادلة فأصبح الاحتلال ومن معه يمثل قوى التنوير والتغيير والدمقرطة، معتبراً صراعه الأساسي هو ضد الإرهاب، وما عدا ذلك فيمكن تأجيله،إلى ما بعد حسم المعركة الأساسية!!

وذكر وود وورد أن إدارة بوش كانت تشهد انقسامات كبيرة لدرجة أن ضباطاً كباراً احتجوا على خطط الرئيس بوش لإرسال المزيد من القوات إلى العراق (2006) بمن فيهم الجنرال كايسي قائد القوات الأميركية في العراق، والجنرال جون أبي زيد مسؤول القيادة الوسطى الأميركية.

ويذكر الكتاب أن بوش خلال المناقشات قرر إقالة دونالد رامسفيلد وزير الدفاع واختار غيتس خلفاً له من دون استشارة نائب الرئيس ديك تشيني الذي عرف الخبر من الرئيس في 6 نوفمبر 2006، أي قبل يوم واحد من الانتخابات التي خسر فيها الجمهوريون الأغلبية في الكونغرس. ورغم أن تشيني لم يكن يوافق على ذلك، ولكنه أبلغ الرئيس أن القرار قرارك.

ويعزو الكتاب أن زيادة القوات العسكرية ليست هي السبب الرئيس في تراجع أعمال العنف، لكن الأمر يعود إلى عوامل أخرى سرية ومعلومات استخبارية. وكانت القوات الأميركية منذ العام 2003 تستخدم تكتيكات هي من اختراع جيش الدفاع الإسرائيلي، وقيل إن هناك مستشارين لتدريبها على هذا الغرض وتقديم الاستشارات لها لمواجهة أي مقاومة لها في العراق. وكانت صحيفة الغارديان منذ عام 2003 قد نشرت مقالة بعنوان: إسرائيل تدرّب فرق اغتيالات أميركية في العراق assassination squads.

جدير بالذكر أن إسرائيل برعت في هذا الصنف من الحروب في تصديها للمقاومة الفلسطينية لاسيما في عمليات الاغتيال خلال أكثر من ستة عقود من الزمان، في داخل الأراضي المحتلة وخارجها، ومن خلال وحدات مستعربة تقوم بالعمل وسط الناس بشكل عادي، لكن مهمتها البحث عن المقاومين والقياديين الفلسطينيين.

ورغم أن مثل هذه الأعمال تعتبر منافية للقانون الدولي، لكن الاحتلال وهو الأساس يعتبر مخالفاً للشرعية الدولية وللقواعد والأعراف القانونية الدولية والإنسانية، فإن إسرائيل استخدمت شبكة واسعة من المخبرين والجواسيس لتحديد النشطاء من المنظمات الفلسطينية ممن تطلق عليهم إسرائيل اصطلاح «إرهابي». وقد ترددت معلومات تقول: إن إسرائيل أسست مركزاً لتشغيل شبكاتها المخابراتية بالعلاقة مع قادة عراقيين بينهم أكراد للتجسس على إيران والحكومة العراقية. وقد نشر مراسل صحيفة «نيويوركر» سيمور هيرش معلومات واسعة عن ذلك (ديسمبر /2003)، لكن الأمر كان يتم نفيه من جانب القيادات الكردية كلما تردد ذكره، رغم أن الساحة هشة ويمكن اختراقها من جميع الأجهزة المخابراتية الدولية. وتعتبر استراتيجية فرق الاغتيالات نسخة مشابهة أو مطابقة لحملات الاغتيالات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، وقد تم تصنيفها في عهد دونالد رامسفيلد، وقد نجح هذا البرنامج في تحجيم العنف في العراق، وذلك لأسباب تتعلق بتجميد مقتدى الصدر نشاطات ميليشيا جيش المهدي ضد القوات الأميركية والعراقية بشكل عام، وقرارات تشكيل الصحوات في الأنبار وغيرها من المناطق الساخنة التي اصطدمت مع «القاعدة»، لاسيما أن الأخيرة لجأت إلى استخدام تكتيكات قاسية وأسهمت في إشعال الفتنة الطائفية، خصوصا أعمال التفجيرات الانتحارية التي شملت كلا الطائفتين، الأمر الذي يضع علامات استفهام حول الأهداف الحقيقية لـ«القاعدة»، طالما أن هدف القوات الأميركية إضعاف مقاومة الاحتلال، فهي الأخرى تنحو نفس المنحى. ويعتبر كتاب الحرب من الداخل «تاريخ البيت الأبيض السري» هو الكتاب الرابع الذي يؤلفه وود وورد في إطار معالجة بوش للحرب على العراق وأفغانستان بعد أحداث 11 سبتمبر 2001. واشتهر وود وورد في السبعينيات مع زميله كارل برنشتاين لمقالات حصرية عن فضيحة ووتر غيت التي أدت إلى استقالة الرئيس ريتشارد نيكسون. وبغض النظر عن صحة ما ورد في الكتاب، فإنه يثير أسئلة شائكة وصارخة، بخصوص العلاقات السرّية داخل البيت الأبيض وفي التعامل مع «الحلفاء» و«الأصدقاء»!

الحرب من الداخل ستبقى مستمرة سواء فاز أوباما الديمقراطي أو ماكين الجمهوري، طالما بقيت القوات الأميركية في العراق، وسواء تم توقيع معاهدة مع العراق أم تم تمديد التفويض الأممي، لكن الأمر لن يغيّر من ضرورة وجود غطاء قانوني لحماية القوات الأميركية في العراق، وسواء حصلت على مثل هذا الغطاء وهو ما سيحدث فعلياً بحكم اختلال توازن القوى لمصلحتها واضطرار الجانب العراقي على توقيع معاهدة غير متكافئة معها، أم لم تحصل رغم استبعاد ذلك، فإن حرب الداخل السرية في البيت الأبيض ستبقى قائمة، ولن يضع حداً لها إلاّ الانسحاب وتحديد جدول زمني، وذلك سيعني تقهقر المشرع الامبراطوري الأميركي ليس في العراق فحسب، إنما على الصعيد الإقليمي، وربما العالمي.

فهل ستضع واشنطن ذلك في اعتبارها خصوصاً في ظل أزمة الرهن العقاري وانخفاض سعر الدولار والأزمة المالية الطاحنة التي شهدتها البنوك ومؤسسات التأمين الكبرى!!

* باحث ومفكر عربي