التعلم من المباراة يجعلنا نتعلم من الحرب، بأنه ليس هناك أحد بوسعه أن يكون منتصراً على الدوام، فمَن غابوا عن المقصورة في فيينا هذه المرة سيحل آخرون محلهم مستقبلاً، المهم أن يتعلم الجميع كيف يتجرع الكأس؛ كأس المرارة، وكأس الفرح والنشوة العابرة. كلما عبرنا من قرن إلى آخر نجد جنون الكرة ومحبتها وعشقها تزداد من دون حدود، بل وتزداد موجة الموضات والاحتفائية المحمومة بكل مباراة وتتصاعد تلك الحالة مع الدورات الرياضية والمنافسات الحادة، ويفرح المضاربون في السوق السوداء بموسم البيع، حيث تصل أسعار التذاكر إلى حالة الجنون لمجرد استعداد رجل عادي الدخل شراء تذكرة المباراة النهائية لكي يتذكر طوال حياته أنه كان «حاضراً» وعاش معركتها ولوحاتها الفنية وسمع الأغاني والشتائم ومفردات العصبية والتشنج والتوتر كلها، وتابع استعداد كل واحد للصدام والمشاحنة إذا ما تم استفزازه، وهو في حالة الهزيمة والانكسار. وتتسع دائرة «جنون» القرن الواحد والعشرين لظاهرة تصاعد حضور النساء في المجتمعات المختلطة، بل وانكسارها وانكماشها التدريجي في المجتمعات المحافظة المغلقة، إذ اخترقت النساء حلقة «التابو» فذهبن إلى حلبة المباريات، وإن كن قليلات العدد في مجتمع مازال ذكوريا، ولكن الجنون والموضة المشتركة بين النساء والرجال في مجتمع مختلط هو ذلك التفنن في الماكياج والملابس وكل ما يمكن تخيله، فلا أحد يهتم بساعة الجنون، فالجميع ذاهب إلى «معركة جميلة وكرنفال رياضي»، وكل شيء فيه محتمل، إذ تختلط الدموع بالفرح و«الزعيق»، والصراخ بالتوتر وبكل ألوان الغضب والعنفوان إلى حد الصدام العنيف من دون خوف أو تردد من شرطة مدججة، فعندما يغضب المنهزمون فلا شيء يردعهم، وعندما يثور الهيستيريون فلا يمكن إرجاعهم عن دائرة النار فقد فقدوا السيطرة على مشاعرهم وعواطفهم المجروحة، لهذا من الأفضل تركهم في التنفيس بأقل ما يمكن من الفعل وتجنيبهم الدخول في حلبة العنف والدم. أما الجنون الآخر والموضة المتصاعدة فهو اهتمام رجال الأعمال بصورة أكبر بتوسيع حلقة «البيزنس» وتصاعد أسعار اللاعبين والمضاربة بهم خفية. فمن جهة يقدم سمسار تسعيرة عن طريق مندوبه، ثم يذهب آخر من المافيا نفسها ويرفع السعر، فإذا بأندية أخرى تسعى، مهرولة، الى اختطاف ذلك اللاعب والتوقيع معه بسرعة وحجزه قبل أن يصطاده صيادو «البيزنس» المقنّعين بلعبة رفع الأسعار، مما يجعل النادي مالك «العبد الجديد» مضارباً جيداً في جني المزيد من الربح. كما يتفنن رجال الأعمال في الدعاية والإعلان وإنتاج سلع التسويق المتعلقة بالنادي واللاعبين، بحيث غرقت الأمكنة والمحلات بالفانيلات والقبعات وكل ما يمكننا تصوره من فنون التسويق وتسليع الإنسان الرياضي والمشجع المهووس، فهناك ضحية دائماً يتم استغلالها واستغلال عاطفتها واندفاعها اللامحدود وتعلقها بحب لعبة شعبية جذبت معها في العقدين الأخيرين النخب كلها من دون استثناء، فوجدناهم وقد صاروا في عالم الكرة الجزء الحاضر في المنافسات الرياضية المهمة، فباتوا يتحلقون الطاولات ويحجزون أمكنتهم في أغلى الفنادق ويتسامرون في أمسية ساخنة حول مَن بإمكانه أن يفوز في هذه المباراة؟ ومَن هو الفريق الذي سيصل إلى نهائي الدورة الساخنة؟هذا ما جعلني أقلب أوراقي وأتابع الناس وهم يركضون بقوة لمتابعة دوري كأس الأمم الأوروبية أخيراً، وتخيلت أن «الفوهرر» هتلر بيننا وصديقه فرانكو حاضراً لحظتها، وكيف كانا يتبدلان التحيات عن بعد، إذ يبعث كل منهما برقية للآخر، متمنياً للنازية والفاشية الانتصار، فذلك هو انتصار لشعبيهما وقيمهما وأفكارهما. بتلك الروح عادة يدوّن الساسة رسائلهم ويتمنون لأفكارهم أن تكون سائدة في كل مجال، فالفخر والاعتزاز القومي ضمن نعرات وعصبيات دائمة تميز تلك القيادات، بل وصارت لدى قطاع واسع من الناس إلى درجة «استملاك» مشاعرهم المريضة، وأصبحوا مستعدين للتقاتل والصدام مع الطرف المنتصر. ما جعل هتلر يحتار هو وصول إسبانيا إلى نهائي المباراة، وقد جلس «الفوهرر» هادئاً قبل انطلاق صافرة الحكم، وحالما انطلقت الصافرة معلنة نهاية المباراة، بدأ يتقافز كالفأر، فيما أخذ فرانكو يزعق «فيفا إسبانيا»، متناسياً الأفكار المشتركة لقيّمهم، ومع كل ضربة إسبانية يفرح فرانكو ويصْفر وجه «الفوهرر» فضاع تواضعه وهدوؤه، وبعدها أخذ يتحسس مسدسه بهدوء مع قرب انتهاء موعد المباراة. وعندما أخذ اليأس يدخل قلب «الفوهرر» كان الفرح يشحن قلب فرانكو الإسباني المشحون بحماس الماتادور، بينما هاج الثور داخل كيان هتلر. وبدلاً من أن يستل فرانكو سيفه ليقتل الثور الهائج، فإن اختراق الهدف مرمى هتلر كان كافياً لجعل «الفوهرر» يسحب مسدسه ويضعه في صدغ فرانكو ويرديه قتيلاً، فالهزيمة لألمانيا من أي طرف كان حتى من «رفاق الدرب» لا تجوز. فألمانيا... بلد لا يعرف الهزيمة. بعدها اكتشف الجمهور حماقة هتلر ومجانين الحرب كلهم في ألمانيا، إذ إنهم عرّضوا البلاد لحربين مدمرتين خسروا فيها منجزاتهم. التعلم من المباراة يجعلنا نتعلم من الحرب، بأنه ليس هناك أحد بوسعه أن يكون منتصراً على الدوام، فمَن غابوا عن المقصورة في فيينا هذه المرة سيحل آخرون محلهم مستقبلاً، المهم أن يتعلم الجميع كيف يتجرع الكأس؛ كأس المرارة وكأس الفرح والنشوة العابرة. فالماكينة الألمانية هذه المرة أصابها العطب! في حين كانت رشاقة «الماتادور» الإسباني أسرع وأخف من حركة وثقل «الثور» الألماني. * كاتب بحريني
مقالات
هتلر وفرانكو في مقصورة المباراة
06-07-2008