فكرة الحرب الباردة جاذبة للسلطة الأمنية، سواء كانت وجهاً من وجوه السلطة أم عينها وذاتها، في حين لن تكون إلاّ سخفاً لو كانت السلطة «سياسية» في جوهرها، كما ينبغي لها أن تكون.

Ad

لا يليق بحكومة في العالم الآن أن يُقال عنها إن من مصلحتها العودة إلى أيام الحرب الباردة، أو إنها تنفخ في أي نارٍ تراها من حولها لعلّها تستحيل حريقاً. لذلك، لا يريد المرء أن يصدّق بكلّ جوارحه مثل هذا الحديث حين ظهر هنا وهنالك عن سورية أخيراً.

كانت الحرب الباردة عصراً راح وانقضى، قام على النزاعات والتوتّر ما بين الولايات المتحدة والاتّحاد السوفييتي وحلفائهما منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، التي كان القطبان المذكوران المنتصرين الرئيسين فيها. وخلال ذلك العصر، خيّمت أجواء المنافسة بين العملاقين على الوضع الدولي، بالسباق على التسلّح بالأسلحة التقليدية أو تلك المتعلقة بالدمار الشامل، وبالإيديولوجيا العمياء التي خلقت غيمة هائلة من الأكاذيب والادّعاءات هيمنت على عقول الناس في كلّ مكان، وبالتجسّس والتآمر وحروب النفوذ التي كان الآخرون يخوضونها بالوكالة.

أو لعلّ الحرب الباردة باختصار هي حالة منافسة وتوتّر بين طرفين أو جماعتين أو حتى فردين، لا تصل إلى مستوى النزاع المسلح المباشر أو المفتوح. تكون الإيديولوجيا والإعلام الموجّه والمؤامرات في كلّ الساحات هي البيئة التي تعيش عليها وتتغذّى.

الآن، لم تعد هنالك حرب إيديولوجية في العالم، ويميل الاقتصاد إلى العولمة تدريجياً ويتجاوز حدود الأمم، وتسود سياسات المصالح والبراغماتية شيئاً فشيئاً. فلا فرصة للحرب الباردة أن تعود. هنالك حالياً نزاعات متحركة مع حركة المصالح، وحروب لن تكون حروباً، وحلول متعددة دائماً.

قد تتقدّم إيديولوجيا الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان- وأسمّيها إيديولوجيا هنا- ببطء أو بسرعة، لكنها سوف تبقى تتقدّم. حتى لو حصلت انتكاسات هنا وهناك. ولا فرصة -ثانيةً- للحرب الباردة أن تعود. ومن يراهن على غير ذلك فسوف يخسر، إلاّ إن كان مجرد بائعٍ في «سوق البراغيث»، يهتمّ بالربح السريع، ويعتمد على نسيان العالم اسمه بعد ذلك.

ينسجم مفهوم «الدولة الأمنية»؛ حيث لا يزال فاعلاً؛ مع مثل هذه المراهنة على عودة الحرب الباردة، بل إنه لا يمتنع عن التعامل الافتراضي مع احتمالات هذه العودة. وفي أجواء مثل هذا الجهد، تنتعش الشفوية والشعوذة السياسية، ويغيب المنطق.

تلك الدولة الأمنية تعيش على التوتّر، وتتغذّى على العزلة، على عكس أيّ دولة لها من اسمها نصيب. والتوتّر والعزلة لا يشكّلان بذاتهما بيئة لإنعاش الدولة الأمنية وإعادة إحيائها ونفخها وحسب، بل إنهما يصبحان آليّات حياتها واستمرارها وثباتها كما هي.

بذلك تكون فكرة الحرب الباردة جاذبة للسلطة الأمنية، سواء كانت وجهاً من وجوه السلطة أم عينها وذاتها، في حين لن تكون إلاّ سخفاً لو كانت السلطة «سياسية» في جوهرها، كما ينبغي لها أن تكون. فالسلطة الأمنية بذلك لا تكون حاجزاً ما بين المجتمع والسياسة وحسب، بل ما بين السلطة نفسها والسياسة أيضاً. وذلك من عجب هذه السلطة وطاقاتها المبدعة الغرائبية، وهي من هنا تعتمد الشفوية والشعوذة، في عصر تجاوزها ويكاد ينساها، لولا عجائب شرقنا ومعجزاته الخارقة.

على عكس ذلك، ورغم تجلّيه على الأرض باعتقالات ومحاكمات مستمرة في سورية، تتقدّم «السياسة» في الفترة الأخيرة، من جهة علاقة النظام مع الخارج الإقليمي والدولي. وانعكس ذلك سريعاً على «سياسة» جزءٍ مهمٍ من المعارضة في «إعلان دمشق»، مع وجود بعض قياداته في السجن، ليقول إنه «لم يكن في نهجه وليس من أهدافه تعزيز عزلة النظام ومحاصرته، بل إن مشروعه الديمقراطي يركّز أساساً على الدفع نحو انفتاح النظام على الشعب السوري قبل أو بالتزامن مع انفتاحه المطلوب على العرب والعالم، خصوصا أن تجارب الحصار السابقة قد علّمتنا أن الشعوب هي التي تتضرر منها أولاً وأخيراً، وليست الأنظمة الاستبدادية وحدها. ورائز هذا الانفتاح الداخلي هو إلغاء حالة الطوارئ وتقدم مسألة الحريات وسيادة القانون وإلغاء القانون 49 لعام 1980 وحل مشكلة الأكراد المجردين من الجنسية ومعالجة الأزمة المعيشية الخانقة». وليقول أيضاً إنه « اتساقاً مع رؤيته السياسية التي تنطلق من مصالح الشعب السوري، ومستقبل سورية الديمقراطي، ودورها الإيجابي في المنطقة وفي العالم، يعلن أن واجبه الوطني يحتم عليه موقفاً إيجابياً من التطورات المستجدة في سورية والمنطقة، طالما توفرت لها الإرادة السياسية الجادة والوضوح الكامل».

و هذه محاولة -غير مباشرة- لتشجيع السلطة على التقدّم نحو ممارسة السياسة «السياسية» وهَجر السياسة «الأمنية» بعد أن فات زمانها، وشلّت زماننا. وما يراه البعض في منامه، أو في ذروة الحمّى التي يعانيها، ليس إلاّ أضغاث أحلام. ينطبق ذلك حتماً على أشباح الحرب الباردة وتأبيد السياسة الأمنية.. ولعلّه لا ينطبق علينا أيضاً.

* كاتب سوري