لم يكن تحديد نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية للجرائم الدولية، هدفاً في ذاته، بل كان هذا التحديد مقصوداً به، بيان الجرائم التي تسلط عليها المحكمة رقابتها وتلاحق مرتكبيها وتنزل بهم العقاب، بما يحقق العدالة الجنائية الدولية، ذلك أن تجريم وتأثيم بعض الأفعال التي ترتكبها الدول أو المنظمات والجماعات أو الأفراد، كان محل بحث وإقرار اتفاقيات دولية سابقة على إنشاء هذه المحكمة وموغلة في القدم، فبعضها يرتد إلى عام 1815، حيث كانت تجارة العبيد محل نقاش في مؤتمر فيينا، وجرَّمت معاهدة حماية أسلاك التلغراف تحت سطح البحر المعقودة في 14/3/1884، التعرض لهذه الأسلاك في أي دولة أو جماعة أو فرد، باعتبارها جريمة ضد قواعد القانون الدولي، كما اتفق على تجريم تجارة المخدرات والأفيون في مؤتمر لاهاي المعقود في 23/11/1912، إلى غير ذلك من مؤتمرات اختصت بنوع معين من الجرائم الدولية.

Ad

إلا أن ما يميز الاتفاق على الجرائم الدولية التي نص عليها نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية أنه، وإن كان الاتفاق على تحديدها في هذا النظام لم يكن مقصوداً أصلاً بل جاء تبعاً لإنشاء المحكمة الجنائية للتعرف على اختصاصها، فإنه جاء شاملاً للأغلب الأعم من الجرائم الدولية، كما جاء أكثر تفصيلاً لصور هذه الجرائم ووسائلها، على النحو الذي سوف نعرض له في هذه السلسلة من المقالات:

أولاً- جرائم الإبادة الجماعية:

وقد عرَّفها نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، في ما نصت عليه المادة (6)، من أن جريمة الإبادة الجماعية تشمل أي فعل من الأفعال التالية يرتكب بقصد إهلاك جماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية بصفتها هذه، إهلاكاً كلياً أو جزئياً.

وعددت هذه المادة صور جريمة الإبادة الجماعية في قتل أو إلحاق ضرر جسدي أو عقلي جسيم لأفراد الجماعة، أو إخضاعها عمداً لأحوال معيشية يقصد بها إهلاكها الفعلي كلياً أو جزئياً وفرض تدابير تستهدف منع الإنجاب داخل الجماعة، ونقل أطفالها عنوة إلى جماعة أخرى.

وكانت الجمعية العامة للأمم المتحدة قد أصدرت بالإجماع قرارها رقم 1 الصادر في 11 نوفمبر سنة 1946 باعتبار القتل الجماعي جريمة دولية.

ثانياً- الجرائم ضد الإنسانية:

وتعرِّف المادة (7) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الجرائم ضد الإنسانية، بأنها تشمل كل فعل من الأفعال التالية، متى ارتكب في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد أي مجموعة من السكان المدنيين، وعن علم بالهجوم، عملاً بسياسة دولة أو منظمة تقضي بارتكاب هذا الهجوم، أو تعزيزاً لهذه السياسة.

وقد حصر النظام هذه الأفعال فيما يلي:

1 – القتل العمد

وهو الذي يمارس كل يوم بل وكل ساعة على الأرض الفلسطينية، وضد أحياء بأسرها، بواسطة دبابات العدو الصهيوني وطائراته ومدافعه، لتحصد المدنيين من الشيوخ والنساء والأطفال مع من تحصده من نشطاء المقاومة الفلسطينية.

2 – الإبادة

وقد عرَّفتها هذه المادة (7) من النظام الأساسي للمحكمة بأنها تعمد فرض أحوال معيشية، ومن بينها الحرمان من الحصول على الطعام والدواء بقصد إهلاك جزء من السكان. وهي من الوسائل البشعة التي تمارسها السلطات الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية، بتجويع الشعب الفلسطيني وحرمانه من ضروريات الحياة، ولعل واقعة قيام أهالي غزة بتحطيم الحواجز الحدودية في رفح للعبور إلى الأراضي المصرية في العريش، لشراء الخبز والدواء ومتطلبات الحياة ماثلة أمامنا، كما يمثل أمامنا في كل يوم احتجاز المرضى وسيارات الإسعاف عند المعابر في فلسطين لساعات عدة وأحياناً لأيام عديدة، حتى يفارق المريض الحياة قبل أن يصل إلى المستشفى.

3 - الاسترقاق

وقد عرَّف النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الاسترقاق بأنه ممارسة كامل السلطات المترتبة على حق الملكية، أو إحداها على شخص ما، بما في ذلك الاتجار بالأشخاص، ولا سيما النساء والأطفال.

وكانت تجارة العبيد أولى الجرائم التي حظيت باهتمام المجتمع الدولي وناقش أمر تجريمها مؤتمر فيينا عام 1815 ومؤتمر لندن عام 1841 ومؤتمر الكونغو عام 1885، كما تناولت هذا التجريم مؤتمرات في أعوام 1910 و1919 و1921 و1926 و1933، ومؤتمر جنيف العام في 1956 ومؤتمر الأمم المتحدة في جنيف حول قانون البحار عام 1958.

تحريم التجارة في البيض

وكان بعض هذه المؤتمرات لا يخلو من التمييز العنصري بين البيض والسود، اعتباراً بأن الجنس الأسود في هذه المرحلة كان يستحق الاستعباد، مثل مؤتمر تحريم تجارة العبيد البيض عام 1910.

ومن الغريب أن بعض الدول الإفريقية لم تحرِّم تجارة العبيد حتى الآن، وأن إلغاء تجارة العبيد في موريتانيا لم يتقرر إلا منذ بضعة شهور.

تجارة النساء والأطفال

وأن أحد المؤتمرات الذي عقد في عام 1921 كان لتحريم تجارة النساء والأطفال.

4 – إبعاد السكان أو النقل القسري لهم

وقد عرَّف النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية إبعاد السكان أو النقل القسري لهم، بأنه يعني نقل الأشخاص المعنيين قسراً من المنطقة التي يوجدون فيها بصفة مشروعة، بالطرد أو بأي فعل قسري آخر دون مبررات يسمح بها القانون الدولي.

وهي لعبة إسرائيل التي تمارسها كل يوم ضد الفلسطينيين، في القدس وفي الضفة الغربية، بهدم بيوت الأهالي، بدعوى عدم حصولهم على ترخيص بالبناء، وبطرد السكان لدواع أمنية، وبإقامة جدار الفصل العنصري الذي أتى على قرى فلسطينية بأكملها وشرد أهلها.

5 – الاختفاء القسري للأشخاص

كما عرَّف نظام روما الأساسي للمحكمة الاختفاء القسري للأشخاص بأنه يعني إلقاء القبض على أي أشخاص أو احتجازهم أو اختطافهم من قبل دولة أو منظمة سياسية، أو بإذن أو دعم منها لهذا الفعل أو بسكوت عليه، ثم رفضها إعطاء معلومات عن مصيرهم أو عن أماكن وجودهم بهدف حرمانهم من حماية القانون لفترة زمنية طويلة، ورفضها الإقرار بأنها قد حرمت هؤلاء الأشخاص من حرياتهم.

وهي لعبة تستخدمها حركة «حماس» في فلسطين و»حزب الله» في لبنان ، ضد الجنود الإسرائيليين لهدف إنساني، هو مبادلة المختطفين بأسرى فلسطينيين ولبنان.

اختفاء الإمام الصدر ومنصور رشيد الكيخيا

كما تستخدم بعض الأنظمة العربية الإخفاء القسري للأشخاص للتخلص من معارضيها، من ذلك اختفاء الإمام الصدر، واختفاء الناشط الليبي في حقوق الإنسان، منصور رشيد الكيخيا، والذي كان وزيراً لخارجية ليبيا ومندوبها الدائم لدى الأمم المتحدة، وقد جمعتني صحبته– في مقتبل عمرنا في عام 1952 رحلة نظمتها الجامعة إلى لبنان وسوريا، فحفر في ذهني حتى الآن، صورة الشاب الذي يتوقد حيوية وشباباً وحماساً لقضايا الأمة العربية، ولم تنقطع صلتنا بعد ذلك، إلى أن اختفى قسرياً، وسمعت اسمه يتردد على لسان مسؤول قضائي كبير، في وزارات العدل المصرية، كان يتلقى مكالمة من وزير العدل، فرأيته ينتفض، لينقل إلى مدير مكتبه رسالة الوزير بالتكتم على الحكم الذي أصدرته محكمة الاستئناف بتعويض أسرة المختفي قسرياً منصور رشيد الكيخيا بمبلغ مائة ألف جنيه، لثبوت تقاعس السلطات المصرية عن حمايته أثناء اختفائه على أراضيها، وحجب هذا الحكم عن أجهزة الإعلام والصحافة، الأمر الذي جعلني انتفض غيظاً قائلاً للمسؤول القضائي، لماذا تتكتمون خبرا مثل هذا الحكم، والدستور ينص على أن تصدر الأحكام في جلسات علنية؟ وأن علم الكافة به سوف يشعر الناس بالطمأنينة أن في مصر قضاء شامخ يزود عن الحقوق والحريات، ورد ببساطة، أنها أوامر الوزير.

وللحديث بقية ان كان في العمر بقية.