ترافق صعود العولمة مع تنام موازٍ للأطروحات الأيديولوجية للمدرسة «الليبرالية الجديدة» على الصعيد العالمي، بحيث أصبحت الأطروحات الفكرية لهذه المدرسة عماد العولمة الفكري، وصارت العولمة وعاء تلك المدرسة؛ فارتبطت هذه العولمة وتلك المدرسة برباط توأمة غير منفصم، استتبع هذا الارتباط ارتباط معاكس، فالمدارس الفكرية الأخرى ترى في تصديها للعولمة و«أخطارها» مثل الأزمة المالية الراهنة ذوداً عن حياضها العقائدية تجاه «الليبرالية الجديدة»، التي كانت حتى قبل اندلاع الأزمة المالية تمسك دفة المبادأة الهجومية على الساحة الدولية. وفي حين انتصرت «الليبرالية الجديدة» بشكل كامل في الولايات المتحدة الأميركية، فمازالت أوروبا تشكل عائقاً قوياً أمام سيادتها الفكرية في نصف الكرة الأرضية الغربي، ومرد ذلك أن المدرسة الاشتراكية الديمقراطية- الأوروبية بامتياز منشأً وتوجهاً- تضرب بجذورها في بنية الهياكل الاجتماعية للدولة الأوروبية الحديثة، وتستحوذ على جماهيرية كبيرة نسبياً تدلل عليها دورياً نتائج الانتخابات البرلمانية التي تحمل أحزاب الاشتراكية الديمقراطية إلى مقاعد الحكومة في أغلبية الدول الأوروبية الغربية.تعود بداية النزاع المحتدم بين «الليبرالية الجديدة» وباقي المدارس الفكرية وبمقدمها الاشتراكية الديمقراطية، إلى وقت سقوط سور برلين 1990 والاستسلام غير المشروط لنظم الكتلة الشرقية الاقتصادية والاجتماعية أمام الديمقراطية الغربية واقتصاد السوق. كانت الحرب الباردة تخفي تناقضات الدول الأوروبية المنضوية في التحالف الغربي إزاء النموذج الأميركي والمتوحدة معه إزاء عدو مشترك، في تجل عملي للقانون الجدلي الذي صاغه الفيلسوف الألماني الأشهر هيغل: الوحدة والصراع، والذي يميز بين الصراعات الأساسية والثانوية. بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية رسخت الولايات المتحدة الأميركية زعامتها للتحالف الغربي، وعمّدَت عملتها الوطنية (الدولار) عملةً عالميةً دون قيد أو شرط، وجرّت الاتحاد السوفييتي السابق ومن ورائه دول «المنظومة الاشتراكية» الدائرة في فلكه، إلى سباق تسلح أودى بالكتلة الشرقية. كانت الحرب الباردة مريحة نسبياً للدول الأوروبية الغربية، التي كانت قد صرفت أغلب اهتمامها إلى إعادة هيكلة نظمها الاجتماعية وإلى إعادة إعمار اقتصاداتها بعد الحرب العالمية الثانية، و لم تنخرط في سباق التسلح بالكثافة التي اعتمدتها الولايات المتحدة الأميركية. كانت الظروف الذاتية للدول الأوروبية من جهة، والظروف الموضوعية لتحالف تلك الدول مع الولايات المتحدة الأميركية من جهة أخرى، تسمح بترك أغلب مسؤولية سباق التسلح تقع على عاتق أميركا، ولما كانت المقارنة بين الكتلتين المتصارعتين الشرقية بقيادة الاتحاد السوفييتي السابق، والغربية بزعامة الولايات المتحدة الأميركية، معقودة عملياً على المفاضلة بين النظم الأوروبية الغربية مع مثيلاتها في الناحية الشرقية من أوروبا، فقد كانت المقارنة في مصلحة الغرب بشكل واضح، مما أسبغ على الدول الغربية شرعية ديمقراطية قل مثيلها في عالمنا المعاصر. ومن هنا يمكن تصور الخريطة السياسية الفكرية، التي دارت الحرب الباردة على خلفيتها؛ إذ تكون الدول الرأسمالية المنضوية تحت التأثير الأنغلو-أميركي على اليمين، والدول الاشتراكية ذات الأيديولوجية والهياكل الستالينية على اليسار، وما بينهما قوى في الوسط تتكون من عناصر الاثنين معاً، ممثلة بدول أوروبا الغربية (وعلى رأسها ألمانيا وفرنسا)؛ التي تمتعت بنظام ديمقراطي يصون الحريات الفردية ويضمن تداولا سلميا للسلطة السياسية، بالإضافة إلى شبكة ضمانات اجتماعية تضارع مثيلتها في الدول الاشتراكية قبل انهيارها. ظهرت الطبعة الجديدة من الخريطة السياسية الفكرية المذكورة بانتهاء الحرب الباردة، التي عبرت عن القوى الحاكمة للصراع في نصف الكرة الغربي لعالمنا المعاصر، فالدول الرأسمالية المنضوية تحت التأثير الأنغلو ساكسوني تبقي على اليمين، واليسار -هذه المرة- للقوى الديمقراطية المؤمنة باقتصاد السوق ذي البعد الاجتماعي، والساعية إلى عقلنة النظام الاجتماعي في الغرب الأوروبي. وعليه نشأ صراع جديد يدور منذ انتهاء الحرب الباردة بين «الليبرالية الجديدة» والاشتراكية الديمقراطية، وهو صراع أفكار لا يقل في ضراوته عن الحرب الباردة. لم تكتف الآلة الدعائية «لليبرالية الجديدة» بمحاولة تثبيت فكرة حصر الانتصار الغربي بنجاح النظام الأنغلو ساكسوني، واستبعاد الاشتراكية الديمقراطية ممثلة عن دول أوروبا الغربية من هذا الانتصار، ومن ثم إعلان انهيار الاشتراكية الستالينية انتصاراً نهائياً «لليبرالية الجديدة» وحدها. وهكذا طغى ضجيج الاحتفالات الصاخبة «لليبراليين الجدد» بالانتصار على الشيوعية، على حقيقة أن الفضل في انهيار النظام الاقتصادي الاجتماعي للدول الاشتراكية الستالينية يرجع بالأساس إلى جاذبية النموذج الاشتراكي الديمقراطي في غرب أوروبا وفي مقدمه ألمانيا، ونظامه الاقتصادي المعتمد على الآليات الرشيدة لاقتصاد السوق المعقلن، في مقابل انطفاء مثيله في دول «المنظومة الاشتراكية» على الناحية الشرقية من أوروبا. * مدير مركز الشرق للدراسات الإقليمية والاستراتيجية- القاهرة.
مقالات
ألمانيا كمان وكمان (3-4): الليبرالية الجديدة في مواجهة الاشتراكية الديمقراطية!
20-11-2008