على سرير الغريبة في الولايات المتحدة الأميركية مات شاعر فلسطين الكبير محمود درويش، وهو الذي طارده الموت طوال سنين حياته، وكان يهرب منه مرتحلا بين المنافي وقال فيه شعرا «من سوء حظي أَني نجوت مراراً... من الموت حبّاً... ومن حُسْن حظّي أني مازلت هشاً... لأدخل في التجربةْ ومن حسن حظِّي أَني أنام وحيداً فأصغي إلى جسدي... وأُصدِّقُ موهبتي في اكتشاف الألمْ... فأنادي الطبيب، قُبَيل الوفاة، بعشر دقائق... عشر دقائق تكفي لأحيا مُصَادَفَةً... وأُخيِّب ظنّ العدم». ورغم ذلك فإن صورة الميت الشهيد تحتل مكانة متميزة وآسرة في تجربته، فهي الذات المعطاءة التي قدمت أقصى ما تستطيع حماية للأجيال القادمة.

ودرويش الذي خاض تجارب حياتية وشعرية عدة إلا أنه كان دائم الهرب من الموت، وهي التجربة التي كانت تستعصي على الدخول إليها، ولكنها إذ جاءته لن يعاندها «لا أريد الموت مادامت على الأرض قصائد... وعيون لا تنام... فإذا جاء ولن يأتي بإذن لن أعاند... بل سأرجوه لكي أرثي الختام».

Ad

والموت يستشعره مع كل لحظة يرتحل فيها بين العواصم التي كان يجوبها بحقيبة صغيرة وجرح مفتوح، ويترك في كل محطة قطرة دم، وفي كل مطار وخزة ألم، وفي كل بلد يترك عيونا من نبيذ وعسل.

ففي المنفى هروب «من أنا دون منفى» ومتسع من الوقت كي يراوغ الموت «هزمتك يا موت»، لكن لا المنفى ولا الموت الذي واجهه درويش كانا يقدران على إخافة الشاعر إنما حسبما يقول الناقد عبده وازن ان موته الشعري إذا حصل هو الأقسى، لذلك يواجه الموت الحقيقي بالموت الشعري، أي يواجه الموت الواقعي بالحياة الشعرية، فالشعر هو انتماء درويش الأول والأخير، واللغة هي حاضره ومستقبله وهناك العديد من القصائد ومنها قصيدة جدارية لا تستحضر أشياء الحياة إلا عبر الموت. لا جماعة هنا ولا وطن ولا منفى جغرافياً ولا خريطة، بل ذات غريبة في عالم غريب «وأنا» مفردة تقاسي العزلة والألم وذاكرة تستعيد الماضي في صور تلتمع كالسراب. السفر هو في الداخل والمنفى في الداخل أيضا.