ماذا قدّمت دور النشر المنتشرة على نطاق واسع للإبداع، وما هي طبيعة العلاقة بينها وبين المبدعين؟ ماذا عن صناعة الكتاب وحقوق المبدعين في العالم العربي؟ أسئلة عدة تطرح نفسها بقوة على الساحة الثقافية العربية حول علاقة النشر والإبداع، «الجريدة» حاولت الإجابة عنها عبر استطلاع آراء الكتاب و النقاد. يربط الكاتب يوسف أبو رية ظهور دور النشر الخاصة واتساع دورها بالقوة التي نلاحظها راهنا في فكرة الاستثمار. يقول: «كانت تلك الفكرة غائبة في حقبة الستينات، لكن في السبعينات ظهرت دور نشر خاصة تحت أسماء مختلفة، تبتز المبدع ولا تولي اهتماما بقيمة الكتاب، فالمهم هو الربح المادي، وتتغاضى عن الأمور البسيطة مثل مراجعة الكتاب لغويًّا». يضيف أبو رية: «في نظرة سريعة على تلك الكتب، تستطيع أن ترصد كماً مرعباً من الأخطاء، لكن العامل الإيجابي هو هامش الحرية الكبير الذي أفاد المبدع بلا شك. اللافت أن معظم تلك الدور ضعيفة من ناحية الإمكانات المالية، فتضطر إلى اللجوء إلى الدولة أو إلى المؤسسات الدولية، ما يفقدها هامش الحرية الذي يشكل العصب الأساسي في عملها».تابوهاتفي سياق متصل يشير الروائي فتحي إمبابي إلى أنه منذ منتصف التسعينات بدأت دور النشر تؤدي دورا كبيرا في عملية النشر، وسمحت بنشر كتابات كسرت التابوهات. يقول: «يكمن العيب الرئيس الذي تقع فيه دور النشر الخاصة في الالتفاف الذي تمارسه على حقوق المؤلف الضحية الرئيس، مثلها في ذلك مثل دور نشر الدولة».يضيف إمبابي: «المطلوب أولا إعطاء الكاتب حقه، وأن تتوقف تلك الدور عن تقاضي المال من المبدع، كأن الإبداع أصبح بمثابة تجارة رخيصة، ما أدى إلى زيادة الكتابات الرديئة التي تعوّض ضعفها الفني بالإغراق الحاد في الكتابة الجنسية إلى حد رخيص. لكن أشير إلى أن دور نشر عدة بدأت تتحمل نفقة الكتاب وتدفع للكاتب مبالغ مالية بحسب التوزيع».بدورها ترى الروائية سلوى بكر أن دور النشر الخاصة المهتمة بالأعمال الأدبية، استطاعت أن تكسر حلقة الرقابة التي تهيمن على ما ينشر في المطبوعات الحكومية والتابعة للدولة، وخلقت هامشا لحرية المبدع ليكتب وفق تصوّراته، «لكن المشكلة أن تلك الدور تتقاضى أموالا من الكاتب مقابل النشر، فكانت النتيجة أنها تنشر أعمال كل من يستطيع أن يدفع بغض النظر عن مستواها، وباتت مسألة الكم هي الطاغية». تشير بكر إلى ارتباط بعض الدور بمجموعة من الصحافيين يروجون لها ولما تنشره، إلى جانب سيطرة الدولة على البعض منها من خلال التمويل المقنّع، على غرار «مكتبة الأسرة»، أو سيطرة مؤسسات دولية، تحاول أن تضعها في إطار سياسي معين.أما الناقد الأدبي د. مجدي توفيق فيوضح أن «دور النشر الخاصة وسعت المساحة التي يستطيع الكاتب أن يراوغ من خلالها ليجد مكانًا لنشر أعماله. ساعد في ذلك أن بعض تلك الدور يتبنى أعمال الأدباء الشباب الذين يمثلون موجة أدبية جديدة، لكن يجدون صعوبة في النشر في مؤسسات الدولة أو دور النشر القديمة التي أصبح لها كتّابها».يضيف توفيق: «الأخطر في رأيي هو أن الكومبيوتر جعل عملية النشر أسهل في إجراءاتها وتقنياتها، فاجتذبت عددا أكبر من المغامرين لإنشاء دور نشر، ثم إن بعض الأدباء يوفر نفقات الطباعة وإعداد كتبه بنفسه، ما أدى إلى توسيع سوق النشر وتحسين تقنية الكتاب وصورته، بالتالي إلى تحسين عملية التوزيع». ما هي رؤية أصحاب دور النشر لتلك القضية؟ تقول الناشرة فاطمة البودي مديرة «دار العين للنشر» إن المشاكل تحاصر الدور الصغيرة وتبدأ من عدم وجود أماكن لعرض الكتب، مروراً بعدم رغبة المكتبات في التعامل مع الناشر المصري وتفضيل الناشر اللبناني، بسبب المنافسة القوية التي تقدمها الدور اللبنانية، انتهاء بأن الكتاب الأدبي، سواء كان شعرا أو رواية أو مسرحية، لا يُوزّع إلا بشق الأنفس.تعتبر البودي أن دور النشر الخاصة لم تساهم في توسيع هامش الحرية أمام المبدعين فحسب، إنما ساهمت في إنقاذ صناعة الكتاب من التدهور الذي وصل إليه على مستوى الطباعة، في الكثير من مؤسسات النشر الحكومية، ما أدى إلى نفور القارئ من الكتاب وجعله يتردد في الإقبال على شرائه. تضيف فاطمة أن الدولة توفر التمويل لبعض الدور الخاصة بشكل انتقائي، وهو ما يجعل الحصول على التمويل ضعيفاً جداً.بدوره، يعتبر الناشر محمد رشاد أن صناعة الكتاب المصرية لم تستقر حتى الآن, مثلما حدث في الغرب, يقول: «ما زال عالمنا العربي, يفتقر إلى وجود قواعد متعارف عليها بين أطراف تلك الصناعة التي تقوم استثماراتها, خصوصا في القطاع الخاص، على اجتهادات شخصية, وهو ما يستلزم ضرورة تضافر الجهود لوضع قواعد منظمة ومستقرة تضمن تحقيق الفائدة للجميع».مستلزماتيرى رشاد أن أبرز معوقات صناعة الكتاب في مصر والعالم العربي هي ارتفاع مستلزماتها واستيراد معظم موادها، تقليل الكميات المطبوعة بسبب الأمية، تراجع عادة القراءة لدى المواطن العربي، قيود الرقابة التي تقلل الكميات الموزعة, انتشار ظاهرة التزوير التي تقلل بيع النسخ الأصلية، الارتفاع المستمر في الضرائب والرسوم الجمركية وأسعار الإعلانات في وسائل الإعلام المختلفة، تراجع إنشاء المكتبات التجارية لارتفاع تكلفتها الاستثمارية، قصور رؤية واضعي السياسات الحكومية ومنفذيها عن إدراك الأهمية الاقتصادية والثقافية للكتاب المصري، ما أدى إلى تراكم المشاكل والمعوقات.أما الحاج محمد مدبولي، أحد أكبر الناشرين في مصر والعالم العربي، فيلخص أزمة نشر الكتاب في كون تلك الصناعة تقوم كغيرها على مستلزمات كالورق والحبر والأفلام والزنكات والألوان، وهي تخضع لتذبذب العوامل الاقتصادية, «مثلا في مصر ارتفع سعر الكتاب عقب تحرير الدولار أكثر من الضعف، لأن مكونات تلك الصناعة مع الأسف كلها مستوردة، لهذا كان تأثير المتغيرات الاقتصادية في صناعة الكتاب أشد قوة, والخاسر الأكبر فيها هو الناشر صاحب الرسالة, لأن الكتب هي بمثابة أموال مكدسة على الرفوف ربما لسنوات, وهامش الربح ضعيف جدا, بمعنى أوضح الذي يكسب هو التاجر وليس صاحب الرسالة».يضيف مدبولي: «اهتمت البلاد العربية بقضية الكتاب ودعمته، وفي مقدمها لبنان. على الصعيد العالمي، نجد أن إنكلترا مثلا ألغت الضريبة على الكتب, وهي تؤمن على حياة العاملين في تلك الصناعة، في مقدمهم الناشر، ما يوفر حياة آمنة لهم ويحقق بعدا إنسانيا وثقافيا راقيا, لهذا أدعو إلى إلغاء الضرائب على الكتاب ومستلزمات صناعته».
توابل - ثقافات
النشر في العالم العربي أزمة حقيقيّة أم زائفة؟ الناشر ديكتاتور والأديب ضحيّة!
03-09-2008