نعيش في منطقة من العالم لم تهدأ صراعاتها وتناقضاتها منذ فترة طويلة، وتعاني مجتمعاتها اختلالات وأزمات عميقة في نظمها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. فمن قضايا الصراع العربي-الإسرائيلي وفي موقع القلب منها فلسطين والأزمات المستمرة في العراق ولبنان واليمن والسودان مرورا بالخلافات العربية-العربية والتوتر القائم بين إيران وبعض العرب، إلى الحضور الطاغي للفقر والقمع والطائفية بين ظهرانينا، والمحدودية اللافتة لفرص التنمية المستدامة والتحول الديمقراطي واحترام حقوق الإنسان، لا يكاد يوم في حياتنا- نحن العرب- يمر دون دماء مراقة أو مواجهات عنيفة أو تكريس لممارسات ظالمة بحق المواطنين.

منطقتنا بحقائقها هذه في أمس احتياج إلى إعلام مكتوب ومرئي ومسموع يتعامل بمسؤولية مع صراعاتها وأزماتها المستمرة، وللمسؤولية هنا معان ومضامين رئيسة أفصلها في النقاط التالية:

Ad

1- من يطالع الصحافة أو يتابع الإعلام المرئي والمسموع في بلاد العرب، وباستثناءات قليلة، يصدم من الضعف البين للشق المعلوماتي-التحليلي في تغطية الأحداث، داخلية كانت أم إقليمية ودولية. خلال الأيام والأسابيع الماضية وعلى سبيل المثال لا الحصر شهد اليمن اضطرابات ومواجهات متصاعدة في الجنوب، واستمر التوتر في دارفور، وتوالى رحيل العمالة الآسيوية من الخليج عائدة إلى دولها، وتشكلت حكومة يمينية جديدة في إسرائيل وبدأت معالم سياستها في التبلور، واقترب موعد الانتخابات الرئاسية الإيرانية وتغيرت خريطة المرشحين، وتجاوز فيروس H1N1 (المعروف اليوم بإنفلونزا الخنازير) حدود المكسيك وبات يهدد بالتحول إلى وباء عالمي. وفي تغطيتها لهذه الأحداث المتنوعة، لم تقدم وسائل الإعلام العربي سوى عموميات إخبارية لا قيمة حقيقية لها.

لن يعرف المتابع لإعلامنا الكثير عن هوية المجموعات والقوى التي تواجه السلطات الأمنية اليمنية في الجنوب ومطالبها أو عن تطور الأوضاع في دارفور المنكوبة بعيدا عن أنباء طرد الحكومة السودانية لبعض منظمات الإغاثة الدولية والمشاهد المخزية لاحتفالات شعبية متكررة بالرئيس السوداني الذي تطالب المحكمة الجنائية الدولية بتوقيفه على خلفية ما ارتكب في دارفور من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. كذلك لم تقدم الصحافة العربية معالجات تحليلية لتداعيات رحيل العمالة الآسيوية على بلدان الخليج أو للاختلافات الفعلية في البرامج والرؤى بين مرشحي الرئاسة الإيرانية، أو لتفاصيل السياسات الإسرائيلية الجديدة إن على صعيد الموقف من عرب 48، أو من النشاط الاستيطاني في القدس والضفة الغربية.

وفي الوقت الذي تفرد به الصحافة الغربية صفحاتها الأولى لتحليلات علمية حول إنفلونزا الخنازير وخطرها الداهم على البشرية وما يتعين على الأفراد القيام به لتجنب العدوى، اقتصرت نظيرتها في عالمنا على المتابعة السطحية لأخبار انتشار الفيروس في الولايات المتحدة وكندا ثم أوروبا دون شرح أو تفسير. يمثل غياب المعلوماتية إذن الآفة الكبرى للإعلام العربي والحد الجاد منها بمتابعة الأحداث وتقصي الحقائق من مصادر متعددة المعنى الأول للمسؤولية في هذا المجال.

2- لا ريب في أن أحد العوامل المسببة، بل المسوغة لغياب المعلوماتية عن الإعلام العربي هو طغيان السياسة عليه. وببعض من المبالغة يمكن القول إن الصحافي والإعلامي يطور موقفا إيجابيا أو سلبيا من الحدث قبل أن يطلع على حقائقه وتفاصيلها. نحن في عالمنا إما مع الحكومة في بلدك وإما ضدها، مع الموالاة أو الممانعة، مع البشير أو ضده، مع الحكومة اليمنية ضد من تسميهم الانفصاليين في الجنوب أو مع هؤلاء، مبهورين بأحمدي نجاد وإيران أو نرى بالجمهورية الإسلامية مصدر لكل شرور الشرق الأوسط، إلى غير ذلك من الأمثلة. وإن كانت واحدة من سمات أهل السياسة ودعاة وأنصار اليافطات الأيديولوجية، خاصة في المجتمعات التي تغيب عنها الديمقراطية والتعددية الحقيقية، تتمثل في اختزال الأحداث في ثنائيات المع والضد الحدية وصياغات مواقف تبسيطية إزاءها، إلا أن طغيان هذه السمة على وسائل الإعلام المنوط بها قبل كل شيء تمكين المواطنين المهتمين من معرفة حقيقة ما يدور حولهم من أحداث ومساعدتهم على التكوين الموضوعي لآرائهم وتفضيلاتهم حولها يعد كارثة بكل المقاييس.

وما نراه اليوم من تخندق الإعلام العربي حول معسكرات الاعتدال والممانعة ونزوع وسائله من صحف وفضائيات وإذاعات، على تنوع ملكياتها بين الحكومية وشبه الحكومية والخاصة، إلى تبني مواقف سياسية وإيديولوجية حين تناول الأحداث دون التفات إلى مقتضيات الموضوعية هو نتيجة مثل هذا المسار الوحيدة وحصيلته المنطقية. إيران و«حزب الله» و«حماس» هي مرادفات الخير الخالص في بعض الصحف والفضائيات وشياطين عالمنا في بعضها الآخر، الحكومات العربية لا يأتيها الباطل من بين يديها أو من خلفها أو هي دوما وفي كل سياساتها وممارساتها على خطأ، والاضطرابات والمواجهات المتكررة هي إما إرهاب وإجرام يهدد الاستقرار وإما مقاومات مشروعة يبرر هدفها النبيل ممارساتها العنيفة. نعم تتحمل الحكومات ونخب الحكم العربية بشهيتها المستمرة لامتلاك وسائل الإعلام والسيطرة عليها الوزر الأكبر لجهة طغيان السياسة، إلا أن تطور الإعلام الخاص لم يغير حتى الآن منها، فقط تنوعت مستويات ومضامين التسييس. بعبارة أخرى، يمثل السعي إلى موضوعية التناول والطرح وكبح جماح السياسة المعنى الثاني للإعلام المسؤول.

3- لا تعني موضوعية الإعلام حياديته. يتسم الإعلام في الغرب، وهو في المجمل خاص الملكية مع وجود بعض جيوب للملكية العامة ترتبط بقطاعي الإعلام المرئي والمسموع، بتنوع توجهاته وانحيازاته بين يمين ويسار وبتأثيرها على الصناعة الإعلامية. على الرغم من ذلك يظل الفارق في هذا الإطار بين الإعلام الغربي وإعلامنا هو أن تنوع التوجهات والانحيازات في الغرب لا يأتي على الشق المعلوماتي ولا يطيح تماما بموضوعية التغطية الإخبارية للأحداث. نعم تتباين مواقف صحافة اليمين واليسار في الولايات المتحدة من إدارة أوباما وسياستها لمواجهة الأزمة المالية والاقتصادية الراهنة، إلا أنها تنقل الشق المعلوماتي المرتبط بأسباب والتداعيات المتوقعة للأزمة لقرائها دون اختزال. أيضاً تتعدد قراءات الإعلام الأوروبي لإيران ومشروعها النووي بين يمين ينظر إلى الجمهورية الإسلامية على أنها مصدر خطر بالغ على الأمن والسلم العالمي ويسار يدعو إلى الانفتاح التفاوضي عليها والبحث عن حلول وسط، ومع ذلك تجتهد وسائل الإعلام المختلفة بموضوعية في تعريف متابعيها بحقائق ما يجري في إيران. بل إن انحياز الإعلام الغربي التقليدي لإسرائيل على حساب الحق الفلسطيني والعربي وبغض النظر عن ممارسات الدولة العبرية بدأ في التغير نسبيا على النحو الذي أظهرته التغطية الإخبارية لأحداث حرب غزة الأخيرة في العديد من الصحف والفضائيات الغربية.

تغليب المعلوماتية والموضوعية في التناول الإعلامي للأحداث ليس إذن بمرادف للحيادية، فالأخيرة تظل وهما طالما استمر عماد الصناعة الإعلامية هو حدث يصنعه ويتابعه بشر، بل يعني قبل كل شيء التعامل الرشيد مع الانحيازات الحاضرة في وسائل الإعلام دون افتئات على حق القارئ والمشاهد في الحصول على المعلومة وتكوين رأيه حول الأحداث باستقلالية. لا نخطئ في إعلامنا بالانحياز إلى الحق الفلسطيني وبالتشديد على شرعية المقاومة، لكننا نتجاهل شرط التعامل الرشيد مع انحيازنا هذا إن نحن أضفينا هالة من القداسة على المقاومة بمعزل عن ممارساتها ونتائجها. كذلك لا نتجاوز شرط الرشادة بالانحياز لضعفاء المواطنين وحقوقهم الاقتصادية والاجتماعية وانتقاد بعض الحكومات صباح مساء على سياساتها القمعية وبعض رجال الأعمال على فسادهم، إلا أننا نخل به حين نجعل من ذلك موقفا مبدئيا مسبقا لا يعاد النظر فيه. التعامل الرشيد مع انحيازاتنا هو المعنى الثالث للإعلام المسؤول.

فقط مثل هذا الإعلام المسؤول هو القادر على تمكيننا نحن سكان واحدة من أكثر مناطق العالم اضطرابا من فهم ما يحدث حولنا بموضوعية وربما العمل تدريجيا على نزع فتيل صراعاتها وتناقضاتها.

* أكاديمي مصري

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء