طرحت في تعليقاتي في هذه الزاوية على الحكم الدستوري الصادر في 1/5/2006 بعدم دستورية بعض نصوص قانون الاجتماعات العامة، ان الحكم جاوز نطاق الدعوى الدستورية التي أحيلت إلى المحكمة عندما تطرق إلى القضاء بعدم دستورية 13 مادة أخرى من هذا القانون، واعتبرناه عدولاً عن قضاء مستقر لهذه المحكمة، ونستكمل في هذا المقال الإجابة عن سؤال بشأن مدى التزام مجلس الأمة بهذا القضاء خارج نطاق الدعوى الدستورية، فيما يلي:

Ad

* حجية الأحكام القضائية بوجه عام:

تعتبر الأحكام القضائية النهائية عنواناً للحقيقة، لذلك تحوز حجية الأمر المقضي، وهي حجية من النظام العام، ومن ثم تقضي بها المحكمة من تلقاء نفسها، بل إن هذه الحجية تعلو على اعتبارات النظام العام.

وحجية الأمر المقضي لا ترد إلا على منطوق الحكم وما يكون من الأسباب مرتبطاً بالمنطوق ارتباطاً وثيقاً، أو متصلاً بالمنطوق اتصالاً حتمياً، بحيث لا تقوم للحكم قائمة إلا بها.

والأصل في حجية الأحكام بوجه عام، أن الحكم لا يحوز حجية الأمر المقضي إلا إذا اتحد الموضوع والخصوم والسبب في الدعوى التي سبق الفصل فيها، وبمناسبة دعوى مطروحة.

* الحجية المطلقة لأحكام المحكمة الدستورية:

لكن أحكام المحكمة الدستورية لها حجية مطلقة، والحجية المطلقة أو ما يعرف بالحجية العينية تعني ألا يقتصر الاحتجاج بالحكم الدستوري على أطراف الخصومة، بل يتعداهم إلى الكافة، ولو لم يكونوا ممثلين فيها، فالحكم الدستوري يلزم الكافة، وتلتزم به المحاكم كافة.

والأساس الذي تقوم عليه الحجية المطلقة للأحكام الدستورية، أن الخصومة في الدعوى الدستورية هي خصومة عينية توجه إلى القانون المطعون بعدم دستوريته، فالدعوى الدستورية هي مخاصمة للقانون ذاته، إذ لا يجوز أن يقتصر الاحتجاج بالحكم القاضي بعدم دستورية القانون على مَن كان طرفاً في الخصومة، ويظل القانون غير الدستوري قائماً بالنسبة إلى غيره، لأن ذلك سوف ينطوي على إهدار مبدأ دستوري هو المساواة أمام القانون.

* إلزام السلطات كافة بالحكم:

والحجية المطلقة للأحكام الدستورية تعني فيما تعنيه إلزام السلطات كافة في الدولة بالحكم الصادر في الدعوى الدستورية، بالامتناع عن اتخاذ أي قرار أو إجراء يستند إلى وجود القانون المقضي بعدم دستوريته، واتخاذ الإجراءات الكفيلة بتنفيذ مؤدي الحكم وتحقيق نتائجه القانونية، وذلك على افتراض عدم صدور هذا القانون.

كما تلتزم السلطة التشريعية، باحترام حجية الحكم الدستوري، فلا يجوز لها أن تعيد إقرار القانون- المقضي بعدم دستوريته- مرة أخرى مشتملاً على ذات العوار الدستوري، لأن ذلك سوف يؤدي إلى سلسلة من الأحكام بعدم الدستورية.

* لا حجية للحكم في نطاق الخصومة القضائية:

من المقرر أن الحكم لا يحوز حجية الأمر المقضي فيما جاوز المسألة المقضي فيها، كما لا يحوز الحكم حجية بالنسبة إلى مسألة لم تكن المحكمة بحاجة إليها للفصل في الدعوى.

وأساس ذلك أنه من المبادئ الأساسية في العمل القضائي، هو وجوب مواجهة الخصوم بعضهم بعضاً بادعاءاتهم، وانه لا يجوز للمحكمة أن تسمع خصماً إلا في مواجهة خصمه، أو على الأقل بعد أن يتاح للخصم ذلك، إذ لا تقوم الخصومة أصلاً إلا بهذه المواجهة، لأن العمل القضائي، يتم في علانية، ولا يتم وراء جدران صامتة Behind walls of silence، فضلاً عن أن المواجهة ضمانة أساسية لتحقيق العدالة، وبلوغ الحقيقة، وهي ضمانة تغيب تماماً، فيما يتطرق إليه الحكم القضائي من قضاء في مسائل خارج نطاق الدعوى المقامة أمامه، والتي لم يكن الخصوم على علم بها، ولم يقدموا دفاعهم ودفوعهم فيها بما يعتبر إخلالاً بحق التقاضي، وهو جوهر حق الدفاع الذي كفله الدستور.

* الدور الفني القضائي للمحكمة:

من المقرر أن دور الرقابة القضائية على دستورية القوانين، هو عمل فني قضائي بحت، فلا يتدخل القضاء الدستوري في ملاءمات التشريع أو يحل إرادته محل إرادة السلطة التشريعية، في ما هو من صميم اختصاصها التقديري.

وجوهر السلطة التقديرية للمشرع هو المفاضلة بين البدائل المختلفة لاختيار أنسبها لمصلحة الجماعة، وهي مفاضلة تحكمها موازين شتى غير متاحة أمام القضاء ولا يستطيع القضاء الدستوري أن يحل إرادته محل إرادة المشرع فيها، التزاماً بدوره القضائي، وبتكوينه القضائي البحت، والتزاماً كذلك بمبدأ الفصل بين السلطات.والرقابة القضائية لدستورية القوانين، ليست رقابة سابقة على إقرار التشريع، تحدد للمشرع ما ينبغي أن يكون عليه التشريع، بل رقابة لاحقة على القانون بعد العمل به، عندما يثار أمام إحدى المحاكم دفع بعدم دستورية نص في قانون لدى تطبيقها له، وهدفها بحث مدى مطابقة النص المطعون عليه لأحكام الدستور. وفي ختام هذه السلسلة من المقالات، أزعم أن خلافاً بين السلطتين، التشريعية والتنفيذية، حول حجية الحكم بالنسبة إلى النصوص التي قضت المحكمة بعدم دستوريتها، خارج نطاق الدعوى الدستورية المحالة إليها، سوف يكون وارداً عندما تطرح الحكومة مشروع القانون الجديد للاجتماعات والتجمعات العامة.