أعتقد أنه قد آن أوان الرحيل الإعلامي للطائفة المدعية التي تعيشت طويلاً على بيع أنصاف حقائق عن مجتمعاتنا للمؤسسات الغربية، واليوم تقتات بفتات لغوي وفكري فارغ مستفيدةً من التوظيف السياسي لبعض الأموال المستثمرة في الإعلام العربي.

تتمثل واحدة من كوارث الإعلام العربي في وجود طائفة من مدّعي المعرفة بالعلاقات الدولية ومدّعي العلم ببواطن تحولات السياسة العالمية يكتبون دورياً في الصحافة ويملؤون الفضائيات صخباً، وهم لا يملكون معلومات حقيقية، بل لا يجتهدون في تجميع بعضها وفهمها. هؤلاء، وبعضهم انتمى في لحظات سابقة إلى مؤسسات أكاديمية أو بحثية في الغرب، وخرج منها بفضائح مهنية أو أخلاقية مدوية، والبعض الآخر استمر في العمل لمثل هذه المؤسسات من دون إنجازات أكاديمية حقيقية، اعتادوا الركض كعمالة فائضة في ركب بعض الأموال الخليجية التي استثمرت على نحو متصاعد في الإعلام العربي، ودوماً ما أبدوا كبير الاستعداد لكتابة ما يطلب منهم دونما اعتبار للمواقف المبدئية أو للقناعات الفكرية.

Ad

هؤلاء يرون في ظهور أصوات عربية جديدة لم يلوثها الركض وراء المال وتجتهد في فهم ما يحدث في العالم من خلال علاقات عمل مع صناع السياسة والباحثين في الغرب وخارجه تهديداً حقيقياً لدورهم، وإيذاناً بكشف دجلهم وسطحيتهم.

أحدهم علق أخيراً على مقال كنت قد كتبته بعد مشاركتي في لقاء مع أعضاء بمجلسي الشيوخ والنواب بالكونغرس الأميركي في باريس واتهمني بالمبالغة حين نعت اللقاء بمؤتمر للكونغرس بينما هو لم يخرج- وفقا لصاحبنا- عن «اللقاء الترفيهي لثلاثة أو أربعة» من أعضاء الشيوخ والنواب المدعوين من جانب «معهد أسبن» للاستماع لوجهات نظر بعض الباحثين، ثم أتبع ذلك ببعض الجمل عن الكونغرس ولجانه الفرعية وجلسات الاستماع التي تنظمها، وكيف أنه دُعي للشهادة أمامها أكثر من مرة خلال الأعوام الماضية.

اللافت هنا هو أن صاحبنا، كعادته في مجمل ما يكتب، لم يكلف نفسه عناء البحث المعلوماتي عن حقيقة الإطار التنظيمي لمؤتمر باريس وهوية من شاركوا فيه من أعضاء الكونغرس والباحثين قبل أن يتهم ويستنكر.

فالمؤتمر- وربما أمكن ترجمة مسماه من اللغة الإنكليزية إلى العربية بعبارة «خلوة للكونغرس»- نظمه معهد أسبن (مؤسسة بحثية أميركية لها برامج للتعاون مع الكونغرس) في أغسطس الماضي بالتعاون مع لجنتي الشؤون الخارجية بمجلسي الشيوخ والنواب وشارك بفعالياته 12 من أعضاء اللجنتين، فضلاً عن 8 باحثين من مؤسسات مختلفة. اللافت أن صاحبنا كان سيجد هذه المعلومات بسهولة ويسر لو طالع الموقع الإلكتروني لمعهد أسبن، وفيه تفصيل ما دار من نقاش وشخوص من حضر، أو لو وجد وقتاً لمطالعة الموقع الإلكتروني لأي من لجنتي الشؤون الخارجية بالكونغرس، وفيهما رصدٌ لنشاطات الأعضاء خلال الفترة الماضية، إلا أنه، وكعادته، كتب عن أمر دون أن يلم به أو يتوثق من معلوماته بشأنه، وسعى لتعويض ذلك برفع سيف اتهام الآخرين، وباستخدام غير مبرر دأب عليه لبعض مفردات اللغة الإنكليزية في نصه، بغية إيهام القراء بعمق معرفته ودقتها، ولمَ لا؟ فالرجل لم يدرك بعد التغير النوعي الذي طرأ على معارف القراء العرب، وهو ما تظهره بجلاء تعليقاتهم المنشورة على العديد من المواقع الإلكترونية.

القراء العرب اليوم على إلمام واسع بما يحدث حولهم وما عادوا ينبهرون بمجرد مطالعة كلمة غير عربية في نص عربي، أو حينما يعاملهم الكاتب وكأنه الوحيد القادر على أن يشرح لهم تحولات العالم وتقلباته السياسية.

ليست فيّ أدنى رغبة في شخصنة القضية المطروحة هنا، فهي أكبر من أن يتم اختزالها في خلاف بين كاتبين فقط، وأعتقد أنه قد آن أوان الرحيل الإعلامي لهذه الطائفة المدعية التي تعيشت طويلاً على بيع أنصاف حقائق عن مجتمعاتنا للمؤسسات الغربية، واليوم تقتات بفتات لغوي وفكري فارغ مستفيدةً من التوظيف السياسي لبعض الأموال المستثمرة في الإعلام العربي.

* كبير باحثين بمؤسسة «كارنيغي» للسلام الدولي- واشنطن