الرؤية حجة الوصف ووسيلته وحين تستحيل يصبح الوصف تركيباً هذيانياً يعتمد على إنتاج الموصوف بأدوات الخيال والعاطفة الخالية من يقين العيان وروحه البرهانية التوكيدية. الوصف إذاً قتل واستنفاذ وإنقاص واستهلاك للموصوف وكلما ارتفعت وتيرته استحال الموت، موت الموصوف قريباً. لا حيلة للعاشق إزاء الوصف سوى العمى والتيه والجهل، لأنها العناصر المؤسِسة لوصف لا يقتل ولا يدعي المعرفة في الآن نفسه. يحتفظ من الوصف بأسلوبه فحسب من دون عيانيته وتقريريته، وبذلك يبقى الموصوف حياً ما بقي الجهل بكل ما يفتحه من نوافذ للهذيان والتفكك والضياع. غابة الوصف تنفتح وتمتد فجاة، وليس أمام الشاعر من مفاتيح سوى ما يصنعه بنفسه في عبوره المستميت المحاصر بشتى أنواع الأخطار، ومن أبرزها خطر فقدان الموضوع وذوبان اللغة في غير ما يريده الوصف من تركيب، فيصبح الكلام كتلة متراصّة مصبوبة في قالب صلب لا يسفر عن أي مشاهدات.ينزع سحبان مروة في كتابه «وصف ماريا» الصادر عن دار «النهضة» حديثاً إلى إنشاء لعبة وصفيّة تجعل موضوع الوصف كاملاً في الأساس، والكلام مجرّد تعليقات هاذية ومتفرقة، لا رابط يجمع في ما بينها سوى أنها كلها تدين بوجودها لذلك الموصوف الأعلى الذي يسميه الكاتب كناية ماريا. هكذا ينفتح مجال الإستعارات والتوظيفات ويصبح دخول الثقافي منها مشروعاً ومتاحاً، كما هو الحال في تراكيب وإحالات كثيرة يلجأ إليها الشاعر لرفد نزوعاته الحلمية بمزيد من التماسك.هامش جميلهذه الكتابة متحوّلة إلى هوامش لنص لم يوجد أو هو مصنوع بالكامل من مادة شعرية تفصح عن نفسها بواسطة تقنية تتابع السبب والنتيجة. فالنص حافل بهذا التتابع الذي يعد من أدوات التفكير المنطقي الإستدلالي، لكن الشاعر يحوّره ويدخله في متاهة الهامش الجميل الذي يسعى إلى تركيب علاقة دائمة مع متن مكتمل الوصف.يعلن الشاعر في قصيدة بعنوان «إلى فيكي»: تتعرين فأمتلئ حبرا / وتزدحم الأفكار كنساء في بيت الفضيحة / تتعرين فيزداد العالم عطشا ويركض صوبك / تتعرين فيزداد العالم عطشا ويركض صوبك...العري هو الوصف النهائي وصانع الحدث الرئيس والختامي في الآن عينه، لذا لا تمثل النتائج التي تلي وقوعه إلا نوعاً من تعليقات إخبارية موجزة ومكثفة. إنها «فلاشات» إخبارية تتصعّد بالشعر وتكتنز بالصور والرغبات فتصبح قابلة للدخول في علاقة سببية مع الحدث الأكبر المتمثل بالعري. هكذا يكون هذا الحبَل بالحبر والأفكار نتيجة طبيعية تصيب من تعرّض لوحي يفوق قدرة روحه وأصابعه على الكتابة. فلا يكتب الحدث أبداً، بل يبقى أسير التصوّر دائماً رغم ثقل حضوره العامر بمظاهر اليقين، لكنه يقين من النوع الذي لا يمكن إثباته من دون أن يعني ذلك أنه لم يعد يقيناً. إنه نوع من الحضور الواثق البديهي الذي لا يمكن وصفه، بل ينصب كل الجهد في الحديث عن آثاره فحسب. لذا يصر الشاعر في هذا المقطع على التوكيد على عنصر العطش والسراب، وأن ماء الوحي الدفاق الذي يصبّه العري أنهاراً أكبر من قدرة الخروف / الطفل / الشاعر على اللحاق به وشربه فهو محكوم عليه بمصارعة ذئاب الوصف مجدداً وإلى الأبد.في جحيم الوصفيتألف التاريخ من المشاهدات، فما يجعله ممكناً هو الحوادث لأنه يتشكّل من عملية اللحاق بها وتبويبها وفهرستها وسردها. ثمة ضرورة وأولوية مطلقة للوقائع في تشكيل التاريخ لذا فإنه ينطق دائماً بلسان النظر المتأكد والواثق.اللغة في التاريخ تسرد ولا تؤلف، تؤكد وتصر ولا تشك، لذا فإنها واقعة في جحيم الوصف الذي لا يحتمل، وهي مطالبة بالركون إلى الحدود التي يرسمها الحدث ومطالبة بالإلتزام بها وعدم تجاوز خطوطها العريضة، لذا قام الفكر الغيبي كسلطة مطلقة كونها تؤكد أن لا مجال لوصف القوى الإلهية العلية. الوصف يفصح عن بيان نقص يعني أن ما يدخل فيه ممسوك وواضح ومكشوف ولا يحتمل الخارق والمعجز بحال من الأحوال.يعمد مروة إلى ترقيص الوصف وتفجير حدوده فيجعله بالتلعثم والحيرة والشك قابلاً لأنواع الإحالات كافة. اللغة تثقل أحياناً وتفقد شفافيتها تحت نير التوظيف الثقافي والتاريخي وتحت سطوة التركيب اللغوي الذي يسيطر عليه هاجس الإستعراض، لكن الشاعر غالباً ما ينجو من فقدان الشعرية بعودته اللاهثة إلى ذلك الجحيم الإلزامي الذي فرضه على نفسه من بداية الديوان إلى آخره.الإنطلاق من الحيرة يجعل التلعثم لغة صافية في بيانها عن هول السر الموصوف وسطوته، ويجعل خطابها المتردد قادراً على صوغ تراكيب متلاحقة مكهربة ومشحونة بكل ما أمكن من رغبات وشهوات. في هذا الصدد لا تبدو الإستعارات التاريخية والتوظيفات الثقافية سوى مجموعة من الحيل التي تستعمل للشفاء من الأمراض التي تسببها تماماً كما هي فكرة الترياق الذي لا بد أن يحتوي على كمية من السم. يحقن الشاعر نصه بسم التاريخ وسم إستخدام مرجعيات وإحالات ثقافية لينجو من أمراضها القاتلة ويصنع لنفسه ونصه ووصفه المضاد شبكة أمان محكمة وناصعة الوضوح.يصدر الشاعر قصيدة «وصف ماريا» بالعبارة التي تصّدر بها أرتميدوروسس الإغريقي كتابه في تفسير الأحلام: «أرتميدوروس الإغريقي يسلِّم على كاسيوس مكيموس!». تحمل هذه العبارة بعداً دلالياً مزدوجاً، فمن ناحية تسمح للشاعر بتصفية ديونه مع التاريخ عبر فعل السلام الذي تتضمنه والذي يرمز إلى المشاهدة والحدثية، لكن المفارقة تكمن في أن الكتاب يتحدث عن تقسير الأحلام، ما يتيح من ناحية ثانية الركون إلى الظنون والشكوك الصانعة للعبة الشعر.بعد هذا التصدير الماكر يدخل الشاعر في لعبة الرقص على حبل مزدوج، من معرفة وجهل، ومن عيان وظنون، فيفتح الوصف على عوالم ناجية من سطوة التاريخ وزمنيته، ومتواصلة مع هذيانية الحلم وشبقيته.يقول في أحد مقاطع القصيدة : رأى عبد الرحمن الداخل نخلة فبكى. رأيت ماريا وبكيت./ ليس لأن ماريا طويلة كالنخلة، وليس لأن قلبي كان بين/ مقلتيها الساهرتين كبيتين إغريقيين على شاطئ الأبيض/ المتوسط، غريبا كأموي في الأندلس، وليس لأنني بدوي / يؤثر البكاء بين يدي الأطلال والأطفال والنخيل ويتواضع / بين أفخاذ النساء مثل فلاح في مستشفى حكومي حيث / تتعالج زوجته من فالج أصابها وأجاعه، وليس لأنني تذكرت / كيف طلع عليَّ جسد ماريا كشهيد يدخل / الجنة.../ بلى بكيت حين رأيت ماريا. ليس لأن البكاء سلم يفضي / إلى غايتين وليس لأن.../ لأن ماريا / سأصف ماريا.../ سأصف قلبي العاري كحبة دواء في راحة عجوز ترتجف / سأصف ماريا.يتوتر المشهد بين حديّن: الرؤية والغياب. يربط الشاعر في بداية المقطع بين المشهد التاريخي وبين مشهده العاطفي، جاعلاً منهما كياناً واحداً، فيهب لحظته الخاصة بمشاهدة ماريا قيمة اليقين التاريخية. النخلة تقدّم لهذه المقاربة عناصر الشبه اللازمة، والبكاء يرفدها بما تحتاجه من زيت ليبقى الإنفعال مضئياً وحياً. التفاصيل التي تحتشد في قلب المقطع تتجه نحو تركيب هذياني يضع تلك البنية التوكيدية التي استُهل بها المقطع في دائرة الشك، ثم يتم الدخول الواثق في التيه، في هيئة جسد ماريا المصعّد بالشهادة إلى مرتبة نور صاف لا مجال للمسه وإدراكه.الحركة في نهاية المقطع تلغي اللحظة وتتجه نحو توقيت مستقبلي، فنعرف أن الشاعر لم يصف ماريا بعد وأن كل ما ادعاه من وصف عارف ويقيني لم يكن إلا وعداً. فالبكاء يفتح الباب أمام غايتين متلازمتين ومتناقضتين فهو حدث واقعي ومادي، لكنه يستحضر موضوعاً غائباً ومفقوداً. هكذا يجمع بين التاريخي والشعري، بين الحضور والغياب في لفتة إنفعالية مكثفة يحضر إثرها وصف ماريا مبللاً بامتناعه في اللحظة والآن.الوصف سيأتي حين ينجز الشاعر عماه.يقف الشاعر في الوصف فيأخذه الوصف ويعد بأنه سيعيده في زمن آت سيكون منشده وشاهده.
توابل - ثقافات
سحبان مروة في وصف ماريا... وصف مضاد ومتاهات الهامش الجميل
11-01-2009