تأليف: هشام البستاني

الناشر: دار الفارابي

Ad

يقول الجاحظ في كتاب «البيان والتبيين»: «... فإن أردت أن تتكلف هذه الصناعة (صناعة الكتابة)، وتنسب الى هذا الأدب، فقرضت قصيدة، أو حبَّرت خطبة، أو ألَّفت رسالة، فإياك أن تدعوك ثقتك بنفسك، أو يدعوك عجبك بثمرة عقلك أن تنتحله وتدَّعيه، ولكن أعرضه على العلماء... فإن رأيت الأسماع تصغي له، والعيون تحدج إليه، ورأيت من يطلبه ويستحسنه، فانتحله... فإن عاودت أمثال ذلك مراراً، فوجدت الأسماع عنه منصرفةً، والقلوب لاهيةً، فخذ في غير هذه الصناعة، واجعل رائدك الذي لا يكذبك حرصهم عليه، أو زهدهم فيه...»

لسنا ندري: هل سبق للكاتب هشام البستاني أن قرأ «نصيحة» الجاحظ قبل أن «يفك الرصد» عن مجموعته القصصية «عن الحب والموت»، وهي عمله الأدبي الأول، ويدفع بها الى المطبعة؟ ذلك أن البستاني يعترف في نهاية الكتاب بأنه أقرأ قصصه المخطوطة غير كاتب صديق من أصحاب الأسماء اللامعة في عالم الأدب القصصي، فرأى «الأسماع تصغي له، والعيون تحدج إليه... ورأى من يطلبه ويستحسنه» على قول الجاحظ، وكان أن شملتنا متعة قراءته.

نقول «متعة قراءته» لأننا وجدنا أنفسنا أمام لون مبتكر في القصة القصيرة إن من حيث الفكرة، أو الصورة، أو اللقطة، أو الأسلوب، ما شدنا الى المتابعة بشغف، في وقت تكثر فيه السنابل الجوفاء في كتابة القصة القصيرة تحديداً. ثماني عشرة قصة، أربع منها «عن الحب» واثنتا عشرة «عن الموت»، تنساب جميعها في رقراق من الكلام لتثير في النفس مشاعر عميقة إما تجاه مواطن الجمال في الأشياء، التي لا تبدي جمالها إلا لمن يحسن النظر اليها ويدرك ما تقوله بصمتها، وإما تجاه الأحداث العادية المنطوية على حالات انسانية تقول الكآبة، أو الفرح، أو تقولهما معاً، وفي ذلك ما يبرهن على أن كاتب القصة القصيرة ليس بحاجة الى نظريات أدبية، أو مدارس، أو الإلتزام بقاعدة معينة في الكتابة، وإنما هو بحاجة الى الجهل بذلك كله لكي ينطلق من «جهله» الى امتلاك القدرة على أن يحرك، في قصصه، حقائق أخرى تنام في عتمة جهل الآخرين، ما قد يعني أن القصة القصيرة لم تعد قصة كتَّابها العالميين الكبار، في الماضي، أي حبكة، وعقدة، وناس، وأحداث، ونهاية متوقعة أو غير متوقعة، بل هي أشياء تسكن وتتحرك، وأشياء تهفو وتتهافت، وأشياء تسعى الى غاية وتقعد عن أخرى، وأشياء تكتبها وكأنها تكتبك.

من القسم المعنون «عن الحب»، نقف عند قصة «غيمة صيف بطعم العسل» شاهدًا أول على ما ذكرناه آنفاً. تتحدث القصة عن عاشقين في نزهة حميمة يبوحان بما في صدريهما تجاه بعضهما البعض.

«على سور القلعة جلسا. «اقتربي مني» قال لها وهي ملتصقة به. أنا شخص فقد قدرته على التعجب، وخاف أن يسمعه الفلاسفة... أنا شخص هدتني الهزائم وما استسلمت، أسقط فأقوم، ثم أسقط فأقوم، تسحبني دوامة الحياة ولا أغرق» «سكت. «اقتربي مني أكثر». قال لها، وهي ملتصقة به. دفن رأسه في شعرها». حين أشرقت الشمس صباحاً، كان ثمة عاشقان ملتصقان ببعضهما، يتهامسان، وخلفهما ضجيج السيارات والناس. وإن أنت أنصتّ جيداً كنت تسمعهما، تقول «تأخرت عالبيت...» فيما يرد هو: «اقتربي مني أكثر...».

رومانسية جديدة

رومانسية عذبة ودافئة. لا شك في ذلك. صنع الله ابراهيم يسميها، في تقديمه للمجموعة «رومانسية جديدة»، أي ليست رومانسية حالمة بل نراها ترتبط بالواقع الاجتماعي وما فيه من تناقضات وأوجاع ومظالم. فضلاً عن الرومانسية، ثمة في هذه القصة بالذات إيحاءات ودلالات، تشف عن الرغبة في الإمتداد الجنسي والروحي في علاقة الرجل بالمرأة، وتظهر هذه الرغبة في قصة «غيمة صيف بطعم العسل» تكرار بطل القصة لعبارة «اقتربي مني أكثر...» يقولها للحبيبة، «وهي ملتصقة به»! فما الذي يريده بعد هذا الإلتصاق؟ الحلولية؟ ربما. هناك قصة قصيرة للكاتب الفرنسي الفونس آلّيه تعبّر عن الإندفاع الشهواني والوجودي نحو المرأة، ومفادها أنه جيء لأحد سلاطين بني عثمان بجارية، من منطقة القفقاس، جميلة جداً. نظر السلطان اليها مبهوراً، وطلب من الذي أهداه الجارية أن يخلع عنها ثيابها، فرفع عن الفتاة الثوب الأول، فقال السلطان: «أيضاً»، فرفع الثوب الثاني، فقال السلطان: «أيضاً»، وعندما بدت الفتاة عارية استمر السلطان يقول: «أيضاً»...

في القسم الثاني من المجموعة «... عن الموت»، تغيب الرومانسية لتحل محلها صور قاتمة من الظلم والبؤس والقمع السياسي والفكري، حيث الكلمات تلامس الروح وتنبش مواضع الوجع المضني، لكنها تحفِّز العقل وتحرِّض خلاياه... صرخة موجعة في فضاء الأرض تهتف بالسؤال الأزلي: لم الظلم؟ وكيف السبيل للخلاص منه.» كما جاء في شهادة الأديبة ميَّة الرحبي عن مجموعة البستاني.

جهنم

في قصة «ذات يوم في جهنم»، متهم بريء بين أيدي زبانية السجون في الأنظمة الأمنية في عالمنا العربي. استجواب، بل تفنن بالتعذيب لإجبار المتهم على الإعتراف بجرم لم يقترفه. يصمد السجين قدر ما يستطيع الجسد تحمُّل الآلام. بعد كل كلمة «اعترف» من الجلادين، حفلة تعذيب أشد عنفًا ووحشية من سابقاتها. «يشهق مبتلعاً كرامته هذه المرة، ويخرج الرب مع زفيره: «حسنا، حسنا، أنا هو، أنا القاتل، أنا الكافر، أنا الزنديق، أنا الإرهابي، أنا المندس، أنا الخائن، أنا الجاسوس، أنا الـ...». أي جميع التهم المتداولة، التي يتوسلها النظام الظالم للقضاء على كل من يفكر على نحو مغاير لما يفكر به «القطيع»، هذا في حال كان ثمَّة في القطيع من يفكر. قصة قصيرة جداً لا تتجاوز الصفحتين من الحجم الصغير ولكنها تعادل، بكثافتها، كتابًا من مئات الصفحات.

يتناول الكاتب في قصة «هذيان» موضوعاً، أو بالأخرى «وباءً» ينتشر، بوتائر متسارعة، في أوساط المفكرين والأدباء وأعضاء التنظيمات السياسية والنقابية في غير بلد عربي، وقد كثُرت ضحاياها، في زمننا هذا، في لبنان بسبب الصراع السياسي والمذهبي الملتبس، وإذا كان «فاوست» العالم الطاعن، في كتاب «غوته» الأدبية قد قبل، في لحظة إحباط، ببيع روحه من الشيطان مقابل إعادة الشباب اليه، فإن الصفقة، بالنسبة الى بعض من ذكرنا هي إلغاء العقل و»ابتلاع» الكرامة، مقابل حظوة زائفة، أو رفاهية ذليلة، تميتان صاحبهما قبل أوان الموت.

الطريف في قصة «هذيان» أن الكاتب لا يعتمد السرد العادي في كتابة هذه الظاهرة البائسة، بل هي طعنات أو رشقات تصيب القلب الأسود في صدور المنهارين، الذين يتنكرون، ببساطة مذهلة، لماضيهم القريب، كمن يخلع حذاء قديماً بات يؤلم قدميه، ويغدون من ذوي الوجوه الورقية المتناسلة يتزاحمون بها على العتبات غير المقدسة. «قال الحكيم: في النهاية (وأحياناً قليلة في البداية) سيعرض عليك المنصب. وزير، نائب، عين، ناطق رسمي. أقفز على المنصب، ودعْه يفتضُّك بسلاسة، إلتهم تاريخك ورفاقك وتصريحاتك، ثم ألفطها كلها قيئاً حامضاً عليهم فـ»أنت منذ اليوم غيرك»..

إننا إذا نهنىء، في آخر الكلام، الطبيب هشام البستاني على هذه الإنطلاقة الأدبية الناجحة، نشاركه في توجيه الشكر الى الأديبين مية الرحبي وصنع الله ابراهيم لأنهما «حسما أمر كتابه».