معظم الأفلام العربية الجيدة- إذا استثنينا منها المأخوذة عن قصص عربية أصليّة- قد عاشت طول عمرها تقتات فضلات مائدة السينما الغربيّة، والأميركية منها على وجه الخصوص. فقد أتيح لي خلال السنوات العشرين الأخيرة أن أشاهد عدداً كبيراً من أفلام الفترة الذهبية لهوليوود، وكثيراً ما انكسرت متعتي تحت وطأة الغيظ حين يذكرني الفيلم الذي أشاهده بأننا سلخناه وقدمناه على أنه من بنات أفكارنا.

Ad

إنني لست في معرض الإحصاء، ولو تطلّب منّي ذلك لأمكنني أن أشير إلى أفلام عربية كثيرة وشهيرة هي ليست إلاّ حرفيّاً لأفلام أميركية قديمة جداً- ربما لم تشاهدها الغالبية العظمى من جمهور الترسو- لكنني مع ذلك أجد ما يشفع لها تجاوزاً، فتقليد الفن هو الفن أيضا، إذ إنّ هوليوود- قبل أن يسيطر عليها المحاسبون، وقبل أن تستهلكها المؤثرات الخاصة وحيل الكمبيوتر- كانت تقدّم أفلاماً توازن بدقة بالغة بين الكفاءة التقنية والحمولة الإنسانية، أمّا الآن، فمن بين أكثر من أربعمئة فيلم تنتجها هوليوود سنوياً، لا تعثر إلا على أفلام تعدّ على أصابع اليدين، تحمل ذلك التوازن الدقيق بين القدرة التكنولوجية والبعد الإنساني.

ولأننا لا نستطيع مجاراة الإبهار التقني للسينما الأميركية، فقد وقف جهدنا على مشارف تقليد التفاهات وحدها، أو اصطناع تفاهاتنا الخاصة التي لا تحتاج إلى جهد كبير، لحسن الحظ، فهي تكاد تكون صفة أصلية فينا!

العلّة، كما أرى، لا تكمن في العوائق المالية أو الرقابية أو التقنية، بل في الزحف المغولي الأهوج على مواقع الفن الخالص والفنانين المخلصين، وانكفاء الطاقات الأصيلة عن النضال (نعم النضال) لاستنقاذ جوهرة الفن من أيدي الغوغاء، واستسلامها لهذا الرجل الفاقع من أجل إشباع بطونها دون أن تعلم أنّ الموت الحقيقي للفنان يكمن في جوعه إلى الفن أكثر من جوعه إلى الطعام.

لقد تيسّر لي في الفترة الأخيرة أن أشاهد ثلاثة أفلام من أقطار يحكمها فقر الإمكانات التقنية واستبداد الرقابة وندرة الأسواق، لكنها كانت تخفي وراء الصور كنوزاً من المشاعر الإنسانية النبيلة، والنقد الاجتماعي الذي يذبح بريشة النعامة.

الفيلم الأول الصيني، عنوانه «معاً»، كاتب قصته ومخرجه هو تشين كيج، وبرغم قلّة أشخاصه فقد كان ممتلئاً بالحركة، وهو يحكي، عبر ثلاثة رجال وصبي، حكاية عامل بسيط يبذل كلّ جهده وماله من أجل توفير مدرسين أكفاء لولده الموهوب بعزف الكمان. ومع الموسيقى التي لها دور بطولة لا مناص منه، هناك امرأة جميلة أيضا، لكننا- لبراعة النصّ والإخراج- ننصرف عن وجهها وملابسها الحديثة، لندخل، بفعل موهبة التمثيل العالية، إلى أعماقها ونشهد جمال الروح الأخّاذ.

أمّا الفيلم الثاني فهو إيراني، عنوانه «أين بيت صديقي؟»، كاتب قصته ومخرجه عباس كيارستمي، وهو يحكي قصّة تلميذ صغير يحاول أن يرجع دفتر زميله الذي نسيه معه في زحمة الخروج من الصف، وهو يعلم أن المدرّس سيعاقبه في اليوم التالي إذا لم يكن قد كتب واجبه المدرسي، وذلك لأنه كرّر نسيان دفاتره أكثر من مرّة.

ولأن بطل الفيلم لا يعرف عنواناً محدداً لزميله سوى أنّ بيته يقع خلف التلال البعيدة، فإنّ استغراقه في البحث عن العنوان طول اليوم، يأخذنا معه في رحلة إنسانية رائعة، عمادها الشخصيات المبثوثة في البيت والطرقات والقرى النائية، وفي غضون ذلك تعمل مباضع النقد الاجتماعي البنّاء برهافة في الفيلم، فنحسّ بأثرها عميقاً دون أن نراها تسيل دماً. ونخلص إلى حقيقة قالها الفيلم دون أن ينطق بها، وهي أنّ هناك اثنين في المجتمع لا يجدان من يصغي إليهما: الطفل والمرأة.

أما الفيلم الثالث فهو تركي، عنوانه «بعيد»، وكاتب قصته ومخرجه أيضاً هو نوري جيلان... وجوهر القصّة استقاه المخرج من حياته الشخصية وتجاربه وقراءاته والعجيب أنّ هناك شخصيتين رئيستين فقط، طول الفيلم، غير أن المشاهد، مع ذلك، لا يشعر بالملل.

وقصّة الفيلم تدور حول رجل يعيش وحيداً في شقته باسطنبول، حتى يأتيه يوماً شاب من أقاربه في الريف باحثا عن عمل في العاصمة، فيقيم معه مؤقتاً، وهنا تبدأ العقدة، إذ يقع الرجل في صراع بين شعوره بانتهاك خصوصيته، وبين واجبه في إكرام ضيفه... وعلى مدار الأيام التي يقضيها الشاب معه، قبل أن يغادره فجر أحد الأيام تحت وطأة سوء طبعه، نعيش دراسة تشريحية حيّة على الصعد النفسية والاجتماعية والأخلاقية، فنكاد نلمس عناصرها بأصابعنا، ونكاد نرى جوانب كثيرة من أنفسنا فيها.

الأفلام الثلاثة السالفة كلها لم تعتمد على أي مؤثرات خاصة، بل اعتمدت على عين وقلب المخرج، وعدسة آلة التصوير العادية.

ولم تعرِّ جسد امرأة لكنها عرّت خفايا النفس الإنسانية ببراعة تامّة، والأكثر من هذا أنها بأجمعها لم تحرق علماً أميركياً مثلاً، لكنها- وليس عندي أيّ شكّ- قد أحرقت قلب السينما الأميركية، لمقدرتها على صنع فيلم لا يملك ميزانية بمئات الملايين من الدولارات، لكنّه في النهاية ينثر غناه الفنّي الفاحش على كلّ الشاشات، ويحصد جوائز المهرجانات السينمائية المحترمة، بقرارات نخبة النقّاد، وهي قرارات برغم كونها متطلبة، لا تمنع من أن يكون الفيلم شعبياً ومحققاً لمتعة الناس... جميع الناس.

يبدو لي أنّ سبب النجاح تلك الأفلام هو أنّ مخرجيها، الذين كتبوا قصصها أيضا، هم على اختلاف ميولهم واتجاهاتهم، ينتمون إلى أمم تشترك في صفة محرّكة كنار المرجل، وهي أنها أمم تقرأ بشراهة، وهذا سبب حيوي لإبقاء جمرة الإبداع متّقدة.

ولأنّ أمّة «اقرأ» لا تقرأ، وتحلف بالطّلاق على ألا تقرأ، فإننا سنظل بحاجة دائمة إلى إحراق المزيد من الأعلام... والأفلام!

* شاعر عراقي