كانت الذكرى الـ13 لاغتيال رئيس الوزراء الاسرائيلي اسحق رابين (زعيم حزب العمل)، التي يحييها الإسرائيليون هذه الايام ، ستمرّ من دون ان نُذّكر بها، لو لم يكن المجتمع الاسرائيلي، يمرّ بأزمة وجودية مفصلية، تجعل معاني حادثة اغتيال رابين، بعد توقيعه على معاهدة اوسلو، على يد المتطرف اليهودي يغال عمير المعارض للسلام، حاضرة وذات دلالات آنية. هذه الأزمة المعضلة تبدأ وتنتهي، عند نقطة واحدة هي عدم توفر او نضج أي مسار سياسي استراتيجي تسير عليه إسرائيل الى أفق محدد. فالسلام مع الفلسطينيين وبعدهم العرب، دونه تنازلات تهدد البنية الهشة للمجتمع الاسرائيلي المنقسم على نفسه، والمحقون بصراعات، بعضها خفي ومبطن ينتظر شرارة تدفعه الى العلن، وبعضها الآخر ظاهر وجلي مثل التحركات المتزايدة للمستوطنين المتشددين في الضفة الغربية ضد الدولة ومؤسساتها وخياراتها. امّا الحديث عن خيار عسكري متوفر لاسرائيل، فهو حديث متهافت، فالمسار العسكري في الاساس مسار عبثي، غير قادر على حماية اي كان، لان فعل القوة يخلق معه بالضرورة رد فعل من الطرف الآخر. والمزج بين المسارين السياسي والعسكري، اي تحقيق انتصارات عسكرية لفرض شروط سياسية، بات عبثيا هو الآخر، بعد ان بادرت الدول العربية مجتمعة، الى التخلي عن خيار الحرب وتبني خيار السلام عبر المبادرة العربية. وبالتالي وجدت اسرائيل نفسها في مواجهة حركات مسلحة، معادية في بعض الاحيان، بل في معظم الاحيان، للدول العربية نفسها. وان كانت هذه المواجهة تبعد كأس السلام المرّ عن الاسرائيليين وتمنحهم ذريعة لتأجيل التنازلات، الا انها، وبعملية حسابية بسيطة، باتت تشكل خطرا اكبر على اسرائيل اذ اصبحت هذه القوى مثل «حزب الله» وحركة «حماس» تسعى الى السيطرة على السلطة في البلدان الموجودة فيها، مدعومة من محور اقليمي لديه اجندة مختلفة عن الاجندة العربية، وبعيدة كل البعد عن السلام.وعطفاً على الصراع الاقليمي في المنطقة بين دول «الاعتدال» ودول «التشدد»، الذي لن يتأثر الا شكليا بانتخاب الديمقراطي باراك اوباما رئيسا للولايات المتحدة، تجد اسرائيل نفسها امام خيارين: السلام مع «المعتدلين» وفق المبادرة العربية مع كل ما يتطلبه ذلك من اثمان، او مشروع المواجهة الدائمة مع «التشدد» التي تهدد بفوضى شاملة في المنطقة الى اجل غير مسمى. اما سياسة المفاوضات المنفردة التي تتبعها اسرائيل خصوصا مع سورية فما هي الا وسيلة اخرى لتأجيل السلام. ولهذه الاسباب مجتمعة تجد الطبقة السياسية الاسرائيلية نفسها في حال «ضياع» استراتيجي مطبق، وهي لا تتجرأ على السير في أي من الخيارين الاثنين المتوفرين الى خواتيمه، بل تمزج بينهما في محاولة للتسويف والتأجيل. وهذا «الضياع» منعكس على الاحزاب السياسية الاسرائيلية. وفي استعراض للخريطة الحزبية التي بدأت تتوضح مع الاستعدادت للانتخابات التشريعية المبكرة المقررة في 10 فبراير المقبل، يمكننا رصد التالي: أولاً: انهيار حزب «العمل» (يسار) بزعامة ايهود باراك الذي يخوض معادلة مستحيلة مفادها ان يصبح الحزب على «يمين» حزب «كاديما» (يمين الوسط) في السياسة، وعلى «يساره» في العمل الاجتماعي والنقابي. ثانياً: اعتصام حزب «كاديما» بـ«الوسطية». والمقصود بـ«الوسطية» هنا، الوقوف على مسافة واحدة من «السلام» كحل منطقي، ومن «اللا سلام» اي الوضع الحالي، لمداراة حساسية المجتمع الاسرائيلي ومخاوفه وهواجسه.ثالثاً: الوعود والآمال الكبيرة التي يغدقها حزب «ليكود» (يمين)، وعنوانها العريض ان اسرائيل قادرة على فرض السلام وفق شروطها، لم تعد مغرية لدرجة ضمان فوز زعيم الحزب بنيامين نتانياهو بأغلبية في الكنيست، وبالتالي سيكون مقيدا بتوازنات الكتل البرلمانية، وسيكون ضائعا هو الآخر بين خيار المضي في المفاوضات وبين الضغط الدولي، اضافة الى الاخطار التي تهدد أمن اسرائيل من ايران الى غزة «حماس» مروراً بـ«حزب الله» وسورية. رابعاً: توحد الحركات القومية والدينية اليمينية المتطرفة في حزب واحد، قد يحقق نتائج ونجاحات انتخابية، الا انه لن يرتقي الى مستوى مشاركة حقيقية في السلطة، وفي احسن الاحوال سيشكل قوة تعطيلية داخل «الكنيست» تمدد لحال الضياع السائدة في المجتمع الاسرائيلي.
دوليات
إسرائيل... السلام المُرّ أو المواجهة الأمرّ
10-11-2008