أفرطت إدارة الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش في استعمال الآلة العسكرية الأميركية بالشرق الأوسط، حيث خاضت حربين ضاريتين لا تزالان مستمرتين في أفغانستان أولاً والعراق ثانياً، كما أن تلويحها المتواصل بتوجيه ضربات عسكرية إلى دول أخرى في المنطقة ساهم في عسكرة العلاقات الدولية على حد كبير. وعلى الرغم من أن القوة العسكرية الأميركية غيرت واقعاً سائداً في أفغانستان والعراق، فإنها لم تستطع تثبيت التوازنات التي تراها مواتية لمصالحها. أفلحت إدارة بوش الابن في الهبوط بالرصيد المعنوي والرمزي الكبير لبلاده إلى ما دون الصفر، وبحيث اختزلت سياسته أسباب القوة الأميركية إلى مجرد استعمال الأسلحة الفتاكة المتطورة، وفي النهاية قادت سياساته الرعناء أميركا إلى مأزق وأوحال الشرق الأوسط برغم ما توافر لديه من آلة عسكرية كاسحة. ومع انتخاب الرئيس الجديد باراك أوباما تتصاعد الآمال في أميركا بتحسين صورتها حول العالم والابتعاد عن التلويح بالضربات العسكرية والاستفادة من «القوة الناعمة» الأميركية للوصول إلى الأهداف التي لم يستطع بوش وآلته العسكرية تحقيقها.

تعود أميركا الآن لتقرأ بعمق نظرية ثنائية القوة، أي «القوة الصلبة» و«القوة الناعمة»، التي دشنها أستاذ العلوم السياسية الأميركي جوزيف ناي وهي النظرية التي دخلت تاريخ العلاقات الدولية من أوسع أبوابه، باعتبارها النظرية الأكثر انتشاراً في المحافل الأكاديمية والسياسية خلال العقد الماضي. تأسيساً على ذلك يدور نقاش قديم جديد داخل الولايات المتحدة الأميركية راهناً حول الطريقة الأفضل لتعزيز المصالح الأميركية حول العالم، هل انتهاج سياسة متشددة تعتمد على القوة الصلبة مثل الإدارة السابقة؟ أم الأفضل الانطلاق من القوة الناعمة الأميركية لاستعادة الهيبة وتعزيز النفوذ؟.

Ad

وهكذا تعود نظرية جوزيف ناي لتدخل جدلاً جديداً مع تغير الإدارة السياسية في واشنطن، وهي النظرية التي لامست مناطق ظلت تاريخياً خارج النقاش مثل دور الدبلوماسية العامة في تحقيق الأهداف الوطنية لدولة ما. والدبلوماسية العامة هي استراتيجيات الاتصال التي تقوم بها دولة ما مع مواطني الدول الأخرى لتحظى بتأييدهم لسياساتها.

تتحدد مراكز الدول في النظام الدولي طبقاً لنظرية «القوة الناعمة» التي صاغها جوزيف ناي، عبر قياس مجموعة من العوامل الصلبة مثل: القدرات الدفاعية والعسكرية، مؤشرات الاقتصاد، التكنولوجيا، التعاون الدولي، ومجموعة أخرى من العوامل الثابتة المساحة الجغرافية، عدد السكان، فضلاً عن رصد وتحليل خصائص النظام السياسي والمجتمعي للدولة مثل الديمقراطية، اللغة، الثقافة والتاريخ. وكما يتضح فإن عناصر القوة الصلبة مثل القدرات الدفاعية والاقتصادية والتكنولوجيا والتعاون الدولي يمكن قياسها وفقاً لبيانات إحصائية متوافرة يتم جمعها على أسس معلومة، مثلما يمكن التوصل إلى معرفة العوامل الثابتة (المساحة الجغرافية للدول المختلفة وعدد السكان فيها) بعملية بحث بسيطة للغاية على الانترنت. ولكن خصائص النظام السياسي والمجتمعي تستعصي على التقدير السريع، لأن عنصرا مثل الديمقراطية وجاذبيتها لا يمكن قياسه وفقاً لبيانات إحصائية، كما أن عامل اللغة وتأثيرها على الرأي العام يعد عنصراً حاسماً في توجيه الرسائل السياسية والثقافية. تولي نظرية «القوة الناعمة» اهتماماً خاصاً للرأي العام خارج حدود الدولة إقليمياً ودولياً، وطبقا لجوزيف ناي فإن الدبلوماسية العامة هي الطريقة التي تدير بها دولة ما قوتها الناعمة. وفي مقابل القوة الصلبة التي تسعى إلى فرض الأمر الواقع بالوسائل المباشرة والتقليدية؛ فإن القوة الناعمة تروم الوصول لنفس الأهداف ولكن عبر الإقناع والتأثير الفكري. وفي حين أن مجال عمل القوة الصلبة المفضل هو الأمر الواقع المحسوس، فإن «القوة الناعمة» تحل في الصور وتتجسد في الرموز. بمعنى أن القوة الصلبة تستعمل القدرات العسكرية والاقتصادية للوصول إلى أهدافها، في مقابل «القوة الناعمة» التي ترتكز أساساً على القيم الثقافية كوسيلة للوصول إلى تلك الأهداف.

وفي النهاية فإن القوة الصلبة تتوجه إلى الحكومات وتتصارع معها، مثلما تتوجه «القوة الناعمة» إلى المجتمع وقطاعاته لاجتذابهم. وكلما كانت الدولة ماهرة وحاذقة في سياستها أدمجت العناصر الثنائية للقوة سوياً، وبحيث تسعى إلى تحقيق أهدافها بكل وسائل القوة الصلبة ومن ثم تغطيتها بعناصر «القوة الناعمة».

تعد الولايات المتحدة الأميركية أكبر منتج في العالم للأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية، كما تمتلك وحدها الشطر الأكبر من المواقع على شبكة الانترنت، وهي البلد الأول المفضل للمهاجرين من كل أنحاء العالم. وفي الولايات المتحدة العدد الأكبر من العلامات والماركات التجارية في العالم، وهي البلد الأول الحائز مواطنوه على جوائز نوبل في فروع العلوم المختلفة والثاني الحائز على ذات الجوائز في الأدب. تشكل كل هذه العوامل مجتمعة الأساس الموضوعي لقوة أميركا الناعمة التي لم يخترعها باراك أوباما من العدم، ولكن الآمال المعقودة عليه داخل أميركا وخارجها ترسي مراسيها على «القوة الناعمة» للعودة بصلابة إلى امتلاك العقول والأفئدة حول العالم.

إنها مهمة أوباما الأساسية في فترته الرئاسية الأولى بحيث إن نجاحه فيها سيظل مرتهناً بقدرته على استعادة الصورة الأميركية الجذابة في الأذهان والعقول حول العالم، بالأفكار اللامعة والصور البراقة والرموز المراوغة وليس بالضرورة عبر الحروب واستعراض الآلة العسكرية مثلما فعل سلفه!

* مدير مركز الشرق للدراسات الإقليمية والاستراتيجية-القاهرة

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء