مع انهيار صراع القرن المنصرم، وقعت الشعوب بين «كماشتين»، الديمقراطية العذبة والإرهاب والتشدد، فمال بعضنا إلى البديل الإنساني، وهو الديمقراطية القادمة من وراء القارة العجوز والنموذج الأميركي، بينما مالت أغلبية عظمى من شعوبنا نحو بديل بات مقنعا لمشروعها، في منهج إسلامي للحل من دون أن تقدم برنامجاً فعلياً للتغيير غير ذلك الشعار المرفوع الخادع للجماهير «الإسلام هو الحل».

Ad

فرحت الأنظمة والتيارات المعادية للأفكار القومية الديمقراطية واليسارية بعد انهيار المنظومة، وقد طربت ورقصت وسائل الإعلام بعد أن «ناضلت» تلك الوسائل الإعلامية الأخطبوطية والمؤسسات المالية في دعم كل جهة بإمكانها أن تضرب بمعولها جدران تلك المنظومة الكبيرة حتى أسقطت بمعاولها الأخيرة جدار برلين، ومن تربة أفغانستان حتى غرينادا ومن نيكاراغوا حتى مصر الناصرية وجنوب اليمن ومن موزمبيق حتى فيتنام طارت تلك الأموال والرجال والعتاد بهدف إزاحة ذلك الشيطان الكبير، وفق التعبير الإيراني لاحقاً، مثلما كان هذا الشيطان تعبيراً قديماً أطلقته البرجوازية الأوروبية عندما برزت الحركة العمالية وقواها وأحزابها في التشكل مسببة القلق.

ومَن يتصفح البيان الشيوعي بصفحاته القليلة يرى بين السطور جملاً تشير إلى ذلك الشيطان، إذ كتب ماركس قائلاً: «هناك شبح يجول في أوروبا اسمه الشيوعية»، ولن يكون الشبح إلا رمزية أخرى لذلك الشيطان الجائل في أوروبا، وهو اليوم يتجول في شكل جماعة بن لادن والحركات الأخرى هنا وهناك على ضفاف الدول ومن بين الطوائف كلها، إذ يرى الإيرانيون أن الشيطان الأكبر هو الولايات المتحدة، بينما يرى الأميركيون مع حلفائهم في العالم أن الشيطان الأكبر جاء مع الثورة الإيرانية وكيانات مثيلة لها في أفغانستان كحركة «طالبان» وغيرها من تيارات انقسمت وتوزعت في الخارطة العالمية كما نراها جميعاً.

فإذا كانت الشعوب منقسمة في القرن العشرين بين مؤيد ومعارض للنظامين، فإن العالم في القرن الحادي والعشرين يبقى موزعاً بين فكرتين كبيرتين، لم تهدأ عواصفهما بما فيها بقايا الإرث السابق من الصراعات القديمة. فليس من اليسير أن يتخلى المرء عن أفكاره لكون ما يراه في الصراع الدولي والإقليمي والمحلي ليس بديلاً غنياً ومقنعاً للشعوب، إذا ما أخضعنا المنهجيات والنظريات والتطبيقات العملية لواقعنا الأليم، فمسألة الصراع الاجتماعي ليس مرتبطا بمسألة الصراع بين نظامين، كما حلم العدالة الاجتماعية والبحث عن مشروع يقدم للإنسانية حلولاً ناجعة ليس سهلاً في ظل الثراء الفاحش والفقر المتزايد المدقع. فماذا اكتشفنا نحن جيل المرحلتين وجيل عاش ومازال يعيش قرنين معاً؟!

من السهل التأمل في تلك المسألة داخل واقعنا العربي من دون الحاجة إلى الرحيل في دوامات القارات الخمس، فمع انهيار صراع القرن المنصرم، وقعت الشعوب بين «كماشتين»، الديمقراطية العذبة والإرهاب والتشدد، فمال بعضنا إلى البديل الإنساني، وهو الديمقراطية القادمة من وراء القارة العجوز والنموذج الأميركي، بينما مالت أغلبية عظمى من شعوبنا نحو بديل بات مقنعا لمشروعها، في منهج إسلامي للحل من دون أن تقدم برنامجاً فعلياً للتغيير غير ذلك الشعار المرفوع الخادع للجماهير «الإسلام هو الحل»، ولكننا لا نرى منها إلا ممارسات مخيفة إقصائية وإرهابية ظلامية تعيد حركة التاريخ إلى الوراء في عصر لا يسعنا التخيل العيش فيه، في وقت تدخلنا الديمقراطية الليبرالية في لمعانها الذهبي، ولكننا لا نجد من ذلك اللمعان البراق إلا خداع كاهن المعبد بين طاحونة الإرهاب والديمقراطية المشتهاة في بلداننا لكوننا نحلم بالنماذج المثالية دائماً.

فقد حلمنا في القرن السابق بنماذج اشتراكية تنتشل الإنسانية من أتون الفقر والجهل والعوز، بينما صار الغرب الأكثر تطوراً ورقياً وحضارة نموذجنا الجديد، فتعلقنا بحلمنا الممكن، وبتنا كالقبائل الرحل نبحث عن آبار الماء التي تنقذنا من الموت. وبصعوبة بالغة وجدت الأنظمة العربية أن بديلها المشترك وبديلها مع شعوبها هو الذهاب نحو ضفاف واحدة، ولكن الأنظمة العربية كلها لم تهضم فكرة عسيرة على الهضم كلما نهضت من فراشها بسبب كوابيس جديدة تذكرها بعبارة «تقاسم الثروة والسلطة»!

فهذه المزاحمة السوداء المشؤومة لا يمكن استيعابها بسرعة، مثلما لم تستوعب الشعوب فكرة اللعبة البرلمانية الجديدة أيضاً مع أنظمة شمولية وقبلية واستبدادية في المظهر والجوهر، وطالما أن الإرهاب قدم لها ورقة مريحة لإغلاق الأبواب، بل ووجدت حليفها التاريخي «الديمقراطي» ينمذج لها عالم القرن الواحد والعشرين وفق مسرح جديد بالإضاءة والمقاعد الإلكترونية وتوزيع أطباق الكذب الحداثية، انخرطت أنظمتنا كتبعية قديمة- جديدة تردد مفردات نقيضة، فتارة تسمعها فرحة بالليبرالية من دون أن تكون مستعدة لارتداء بدلتها العصرية، كما هي مفردات حقوق الإنسان والديمقراطية والمعنى العميق للحريات، فأمسكت مشرطها وسيفها القديم فأخذت تمر به شمالاً ويميناً، فورقة الإرهاب صارت نزعة ومنهجاً سياسياً «شمولياً» للأنظمة أيضاً. فلماذا تمنح الشعوب حقوقاً متزايدة مادام هناك تيارات متشددة وممارسات إرهابية؟! وبينما أنظمة الغرب الديمقراطي تكشف عن صمتها الهادئ والمناور إلى درجة وضعت شعوبها ومجتمعاتها المدنية في حيرة وعراك جديد إزاء تلك السياسات، مثلما وضعتنا نحن جميعا في عالمنا العربي وفي القرن الحادي والعشرين في طريق مزدوج أكثر مفارقة واندهاشا وتساؤلا حول ديمقراطياتنا العرجاء المشوهة بالبثور والتقيحات، فسقوط البرلمانات في ربقة الظلام جعلنا نقارن بين السيئ والأسوأ، وليس كما هو الحلم المنشود، فقبلنا بالتصفيق لما هو ممكن ومقبول، فلا أحد بإمكانه تصور شوارعنا تحكمها أنظمة من نموذج «طالبان» وأخوات كان وعماتها!

*كاتب بحريني