يزداد التفاوت بين المجتمعات حدّة، ويقبل يوم المسرح العالمي سنوياً على جماعتين، الأولى متقدّمة صناعياً وثقافياً ومشهدياً، والثانية غارقة في أزماتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية... والمتابع يُدرك الأحداث الكثيرة التي تتخذ العالم العربي موطناً حميماً لها منذ سنوات خلت وإلى اليوم، حتى بدت مسرحاً قائماً بحد ذاته يُنسينا وربما يقتل فينا الحاجة الى التمسرح... والسؤال: أين المسرح اللبناني في عيده؟ لبنان مسرح الأحداث الكثيرة، غارق في أزمات أصابت خشبته بشلل منذ سنوات. وقبل رحيله وفي معرض تأكيده على مضيّه في تجاربه المسرحيّة قال شوشو (حسن علاء الدين)، أحد أبرز المسرحيين اللبنانيين: «بعد الظروف الأليمة التي مرت على لبنان تساءل البعض عن سبب استمراري في العمل على تقديم مسرحية كوميدية جديدة، وكان الجواب بأنني أملك مسرحاً يومياً، وأن المسرح للتسلية والترفيه وإضحاك الجمهور، وأن استمرار المسرح ضروري بصرف النظر عن عدد الحضور، وإلا تحوّل الى مسرح موسمي». لكن شوشو لم يعرف آنذاك أن الظروف القاسية ستستمر وتتسع، وأن خلاص الخشبة والقيمين عليها سيصبح اليوم منوطاً بتغيّر هذه الظروف.في لبنان يشكّل «فن الفرجة» جزءاً لا يتجزأ من حالة التدهور التي يعاني منها البلد: مجتمع غارق في هموم معيشية تسيطر عليه القيادات الحزبية والطائفية، علماً أنه منذ أواخر خمسينات القرن الماضي شهد لبنان أنواع المسرح كلها، العبثي منها والجاد، وظلّ متماسكاً حتى عام 1975 بفضل الدعم المادي طبعاً لينحسر بعدها الوعي الثقافي ويُوظَّف طائفياً وسياسياً، وصبّ ذلك كله في مصلحة مشهديات مشتتة وعبثية على الخشبة وعلى الشاشة الفضيّة.«كل على طريقته» جملة تترجم واقع الاحتفال باليوم العالمي بالمسرح في لبنان، إذ يبدو جليّاً أن المبادرات تتخذ طابعاً فردياً من جماعات هنا وهناك، في غياب دعم الدولة طبعاً. ولدى المسرحيين في لبنان رغبة حقيقية للنهوض بالمسرح، فهم يعتبرونه ملاذاً أو حتى «مقاومة» كي لا يسقط بلدهم في فخ الطائفية وأنواع المصائب الحديثة كافة. لنصبح بذلك أمام واجهتين، الأولى سياسية محبِطة والثانية ثقافية تواجه الانزلاق محاولة النهوض. للمراكز والمسارح دورها في النهوض المسرحي في لبنان، وتقوم من حين الى آخر بأدوارها في إعادة الروح إلى هذا الفن الذي طالما احتاج دعماً مادياً ومعنوياً، وفي هذا الإطار سألنا الرئيس السابق لـ{المركز اللبناني للمسرح» الدكتور إيلي لحود حول النشاطات التي يقدمها المركز في يوم المسرح العالمي، فقال: «يقوم المركز (تابع لـ{المؤسسة الدولية للمسرح» في اليونيسكو) سنوياً بنشاطات مع الكليّات الجامعية الرسمية والخاصة احتفالاً باليوم العالمي للمسرح. وتشمل النشاطات مشاهد مختلفة في المسرح الدرامي والغنائي والراقص وهي عروض مجانية. ويوضح د. لحود أن مظاهر الاحتفال الجماعية هذه خفتت في الآونة الأخيرة، وباتت كل جامعة تحتفل على طريقتها الخاصة.السياسةينظر كثر إلى الوضع السياسي المتخبّط والاجتماعي المأساوي والإحباط كنوافذ لولادة فن من نوع خاص ومشهد ثقافي مغاير وثائر، أمّا في لبنان فالأزمة السياسية والاقتصادية العصيّة تشكّل «فن الصراع»، وأبطالها يعتلون مسارح وطننا متى يشاؤون، فيتحاورون... وتعلو أصواتهم وتنخفض، فتنتج العقدة والأزمة! أكد الناقد عبيدو باشا أن اللبناني محاصر بواقع سياسي واجتماعي واقتصادي لا يُحسد عليه. فيما علّق المسرحي العراقي جواد الأسدي أن «الحروب والتناحر الطائفي في لبنان أزاحت بيروت من مكانها التاريخي، بيروت المدينة الحرة التي تسودها حياة اجتماعية مدنيّة لافتة طالما شكّلت جذباً لمثقفين كثر وجمهور عربي مثقف عريض. أما اليوم فالجمهور الحاشد يحظى به الغناء والمطاعم والغريزة».من بين مدن كثيرة اختار جواد الأسدي بيروت منبراً لنقل فنون المسرح، فأنشأ مسرح «بابل» في شارع الحمرا. وهو عرض قبل أيام مسرحية «حمام بغدادي» في نيويورك، ويقدم أعماله في عواصم عالمية كثيرة، يبدو بالنسبة إليه تقديم المسرحيات أهم من الاحتفاء بيوم المسرح، وفي اتصال مع «الجريدة» سألناه حول أطر نهوض المسرح وتفعيله وحاجاته، فأجاب: «وزارة الثقافة هي المعني الأول، فهو مثلاً «لم يتلقَّ سوى الدعم المعنوي والتبريك والسعادة بوجوده في لبنان، لكنه وفي ظل غياب الدعم الحكومي لم ينجح باستقطاب أي مموّل داخل بيروت». بدوره قال لحود الذي أنشأ {محترف عمشيت للمسرح} إن المسرح يرتبط بالإنسان عموماً وبتطوره لذا يحتاج دعماً رسمياً: «خصصت وزارة الثقافة بعض الدعم للمسرح، لكنه للأسف يُوزّع على أشخاص بعينهم ولا يُستغل في تنمية الكليّات والمعاهد والمحترفات الخاصة بالمسرح. والمضحك المبكي أن لبنان مؤسس المسرح العربي لا يملك مسرحاً قومياً وطنياً ولا مجلة رسمية ناطقة باسم المسرح. فكيف ننشىء كلية للمسرح ولا نبني مسارح؟! في القاهرة 80 قاعة مسرح عامة، أمّا في لبنان فاكتفت الدولة بإنشاء «الأونيسكو» والتي أصبحت قاعة لاستضافة أنواع الاحتفالات كافة. ناهيك عن غياب دعم التأليف والتوثيق، وحين أخذ «المركز اللبناني» هذه المهمة على عاتقه لم يتلقَّ الدعم فتوقف». وأكد لحود أن إدراج المسرح في المناهج المدرسيّة يساهم في إعادة هذا الفن إلى الواجهة ويؤسس لشريحة واسعة من متذوّقي المسرح مستقبلاً. شارك لحود في مهرجانات مسرحية عدة من بينها المهرجان الخامس للمسرح التجريبي في القاهرة، ويقدّم عروضاً سنوية ضمن فاعليات مهرجان المسرح الإغريقي في قبرص. وحول مدى أهمية المهرجانات في تحريك الساكن من المسرح، أوضح: «على رغم أهميتها تأتي المهرجانات المسرحية شكلية إلى حد ما، لذا لا بد من جلسات مصغّرة وورش عمل، يشارك فيها طلاب من مختلف البلدان العربية ويديرها أساتذة ومسرحيون. ويشير لحود إلى افتقار المهرجانات إلى قيّمين عارفين بأمور المسرح، فالمقررات التي تصدر عن المهرجانات والتي يُقال إنها تطبع وتوزع لا تصل إلى أصحاب العلاقة، والدعوات تقتصر غالباً على الصحافيين فيما يُستثنى من اللائحة مخرجون كبار ومؤلفون. والراجح أن التمويل هو المشكلة الأساسية في معظم المسارح اللبنانية، ولهذا يلاحظ أن مخرجين لبنانيين يلجأون الى بلدان أوروبية بحثاً عن تمويل لأعمالهم، ما يجعل النشاطات المسرحية مرهونة بطموحات المموّل الأوروبي أو غيره.أصدر الناقد عبيدو باشا مجموعة كتب عن المسرح اللبناني والعربي من بينها «بيت النار، وممالك من الخشب» وهو كان أحد النقاد البارزين في الصحف قبل أن يختار العمل في تلفزيون لبنان ويبدأ بالاهتمام بإصدار الكتب التي في مخزونه. ما الذي يحتاجه المسرح في لبنان، وفي عيده بالتحديد؟ صرّح باشا لـ{الجريدة}: «المسرح حالة عالميّة، ويحتاج في لبنان «ظروفاً أخرى»، فلبنان جزء من العالم أجمع وازدهار مسرحه أو خموده مرتبط بحالة المسرح العالمية».الستينياتبحسب باشا، أحد الأسباب الرئيسة لركود المسرح عموماً «انتهاء مرحلة حركات التحرير التي سادت خلال الستينيات والتي شكّلت مظلة رافعة للتجارب الطليعية في العالم، فعهد الثورات الاشتراكية وتشي غيفارا انتهى ومعه قضايا كثيرة كانت حاملاً للتجربة المسرحية في العالم وبالتالي التجربة المسرحية في لبنان. ناهيك عن أنه في تلك الفترة أنتج التناحر بين المعسكرين الاشتراكي والليبرالي أفكاراً كثيرة ساهمت بقوة في ولادة نصوص وأشكال مسرحية كثيرة». وفي عصر العولمة، بحسب باشا أضحت المعلومة مسطحة وأصبحنا أمام سيطرة آحادية وسلطة على الفكر الممثّل بالصورة والصوت وبالتالي تجويف القضايا، وهذا الوضع لا ينتج أفكاراً يستطيع الفنانون مسرحتها. السؤال نفسه طرحناه على د. لحود الذي أشار إلى أن الوضع المسرحي في لبنان «شاذ» جداً لأن هذا الفن ليس أولوية بالنسبة إلى الدولة ولا الجمهور، والتداعيات السياسية والمعيشية تأخذ السبق والأفضلية، على رغم بعض الخطوط المهمة داخل المحترفات، لكن ليس في السوق التجاري، وشباك التذاكر يعاني من أزمة واضحة، فمن بين خمسة أعمال معروضة مثلاً لا تأخذ سوى مسرحية واحدة نصيبها من الاهتمام الجمهوري، ناهيك عن انتشار الفضائيات وتوافر أحدث العروض والمسرحيات على أقراص مدمجة. وأوضح لحود أنه إذا بقي المسرح يراوح مكانه ويعمل بشكل تقليدي سيبقى كطير يغرّد خارج السرب، لذا لا بد من ألا يشبه هذا الفن شيئاً وأن يكون «متوحشاً» ومدهشاً ويتطرق إلى ما لا نراه في غيره من الوسائط. أما المخرج جواد الأسدي فأرجع أزمة المسرح في لبنان إلى عوامل عدة: أولاً، ضعف في مستوى الكليّات والمعاهد المسرحية وعددها: «اكتشفت من خلال تجربتي المسرحية في لبنان أن طلاباً كثراً ليسوا متمكنين من أدوات المسرح، وأنهم ربما تخرّجوا قبل أن «يشبعوا» من طعم المسرح ورائحته وهم يعانون من مشاكل في الصوت ولغة الجسد والأداء والوعي المسرحي، على العكس من التمثيل في سوريا وبغداد، على رغم توافر أساتذة مسرح يملكون كفاءة عالية في ميادين الإخراج والتأليف والأداء»، ويوضح أن ندرة العروض التي تعتمد على الشباب تزيد المشكلة عمقاً. على أن قلة المحترفات المسرحية التي تحتوي على اختصاصيين في إعادة صياغة الفنان صياغة حديثة، وندرة مسارح الدولة وحتى المسارح الأهلية، سببان آخران، بحسب الأسدي لخفوت المسرح في لبنان. كذلك أشار المسرحي العراقي إلى عدم أخذ أهمية ورشات العمل المسرحية في لبنان بالاعتبار على رغم أنها تدخل الفنان في تكوين مسرحي جديد.أليس دور المسرح أن يحرّض ويتّهم؟ رفض باشا تحميل المسرح أكبر من طاقته، موضحاً أنه شكل تعبيري لديه قدرات محدودة وأفكار ينقلها أبطاله إلى الجمهور على ضوء قضايا محددة، مثلاً لم يحدث أن قامت ثورة بعد عرض مسرحي ما. وبدوره يشبّه لحود المسرح بالإصبع الذي يشير إلى المشكلة وإلى المتّهم والضحيّة، لكنه في الوقت نفسه لا يهدف إلى تقديم الحلول، وليست مهمته معالجة اليوميات بل قضايا إنسانية كبرى.قضايا عربيّةفي يوم المسرح العالمي لا بد من ذكر دور مسرح لبنان البارز في نهضة المسرح العربي عموماً وتطوّره، بالإضافة إلى معالجته قضايا كثيرة من بينها، احتلال فلسطين والجنوب اللبناني. وشكّل زياد الرحباني ظاهرة لافتة ميّزت مشهد الحياة في لبنان، إذ تحوّل الفنان إلى سياسي من جلد مختلف، وحظي بجمهور خاص تأثر بأفكار أسس لها هذا النوع من المسرح الساخر من خلال مسرحيات كثيرة من بينها: «نزل السرور، بالنسبة لبكرا شو، فيلم أميركي طويل، شي فاشل، بخصوص الكرامة والشعب العنيد، لولا فسحة الأمل...».أمّا شوشو فاختار الكوميديا لالتصاقها بالواقع اليومي، وسعة جمهورها وتنوّعه مقارنة بجمهور التراجيديا أو مسرح النخبة، لأنها تعكس واقع الجمهور. واستعان شوشو بعروض الفودفيل، محولاً الكلام إلى مشهد. وبنى بذلك مسرحاً وطنياً شعبياً بصيغة كوميدية أسست لحالة مسرحية كوميدية في لبنان، إلى جانب مسرح نخبوي توجه الى جمهور المثقفين العارف بمسرح العبث واللامعقول، وبمسرح جان بول سارتر, وبالحركة الجسدية للمخرج البولوني جروتفسكي. يعود تاريخ المسرح في لبنان إلى عام 1848 مع مسرحية مارون نقاش «البخيل» المقتبسة عن مسرحية موليير بالعنوان نفسه. وبعد وفاة مارون تابع شقيقه نقولا المسيرة، فأعاد تشكيل الفرقة، وكانت أول مسرحياته «الشيخ الجاهل» و»ربيعة بن زيد». وفي عام 1876 أسس سليم نقّاش فرقة «بيروت» وانتقل بها إلى الإسكندرية. وعمّت الساحة المسرحية اللبنانية بعد ذلك ترجمة واسعة لآثار مسرحية عالمية في المسرح الكلاسيكي الفرنسي والإنكليزي، ومن المترجمين البارزين آنذاك: أديب اسحق، طانيوس عبده، الياس فياض، نجيب حداد... وكتب المسرحيون تجارب باللغة الفصحى شعراً ونثراً مستلهمين التاريخ العربي القديم والبطولات. إلى الحرب العالمية الأولى بقي المسرح اللبناني منتشراً عبر مصر في معظم البلدان العربية، وارتبطت نهضته في العقود الأولى من القرن العشرين بالمسرحيين اللبنانيين في مصر، ليبدأ الاحتراف بشكله الحديث مع المؤلف فرح أنطوان والمخرج عزيز عيد والممثل جورج أبيض.وفي بداية الأربعينات برزت فرقتان مسرحيتان: «الأدب التمثيلي» بمؤسسها ميشال هارون ونجمها فيليب عفيفي، و{بيروت» بمؤسسها محمد شامل، وغيرهما من فرق عانت الركود خلال الحرب العالمية الثانية، وفي أواخر الخمسينات توقّف معظمها بسبب تدهور اقتصاد البلد وتقلّب مناخه السياسي.في نهاية الخمسينات تألفت «لجنة مهرجانات بعلبك الدولية» ورجع الى لبنان من باريس في عام 1958 المسرحي منير أبو دبس، فكلفته لجنة مهرجانات بعلبك إدارة مسرح تجريبي ومدرسة «المسرح الحديث» التابعة له فانطلقت منها مواهب إخراجية وتمثيلية كثيرة. وفي المقابل أطلق «الأخوان رحباني» المسرح الغنائي. ونشوب الحرب اللبنانية في عام 1975 تراجع مستوى المسرح اللبناني بشدة، ما عدا بعض المحاولات الجادة، إذ أسس روجيه عساف مع نضال الأشقر محترف بيروت للمسرح في عام 1968، ثم أنشأ عساف محترف الحكواتي في عام 1978 وجمعية «شمس» (شباب، مسرح، سينما) والتي تعنى بتعريف الشباب بالمسرح وتقوم بدورات وبإنتاجات خاصة هدفها النهوض بالواقع المسرحي اللبناني.يشار إلى أن مسرح «الشونسونييه» عرف طريقه أيضاً إلى لبنان واشتهرت به إيفيت سرسق ووسيم طبارة وفرقته وأندريه جدع، وبيار شمسيان، والذين يدافعون عن هذا النوع من المسرح مؤكدين أنه ليس سهلاً وبسيطاً كما يدعي البعض. بالإضافة إلى مسرح «الستاند أب» وهو عبارة عن فكرة معينة يقدّمها الممثل وحده على المسرح لمدة طويلة أو قصيرة.باختصار يرفض المسرحيون تحميل خشبتهم مسؤولية تفوق طاقتها، على اعتبار أنها تطرح المشاكل وتضعها أمام المجرم والضحية في آن، لكنها في الوقت عينه لا تقدّم حلولاً ولا تقترح خططاً إنقاذية، ويشددون على أن خلاص الخشبة والقيمين عليها لا تعوزه سوى ظروف أخرى أولها ربما «لفتة» من الدولة أو الوزارة المعنيّة.
توابل - ثقافات
المسرح في لبنان... ماضٍ زاخر وحاضر يبحث عن نهوض!
27-03-2009